لم يكن تشيكوف وحده هو الذي امتلك ناصية وعينا وجعلنا ننهل من منابع الفن القصصي الأصيل والجميل بل كانت هناك مساحات شاسعة في الوجدان تزاحم حضوره وتأثيره مساحات احتلها لفيف من الكتاب الرواد الذين تعلمت وتعلم أبناء جيلي ( وأقصد بالجيل هنا ما اصطلح النقاد علي تسميته جيل الستينيات) أول دروس الفن القصصي ولو كان جهدهم الأساسي ضاربا في رومانسيات وكلاسيكيات الحكي المنتمي الي المدارس الأوروبية السائدة علي حواف المجتمعات البرجوازية في فترة مابين الحربين العظميين(1918 1939) ولا شك ان من أهم كتاب تلك المجموعة الأستاذ محمود تيمور والاستاذ ابراهيم المصري والأستاذ محمود البدوي وآخرين ممن أدخلتنا كتاباتهم الرائدة والمفعمة بالحماس وعشق هذا اللون من ابداعات الحكي عالما اجتذب الكثير من أبناء جيلنا في بداياتهم الي نوع من أنواع التقليد والاتباع وإن لم يستمر هذا التأثر طويلا فقد حدث متغيران أظنهما كانا بمثابة انقلاب كامل في مسيرة فن القصة القصيرة في مصر, أما المتغير الأول فهو ما أحدثه عملاقا ذلك الميدان اللذان اكتسحا في سنوات قلائل كل ماسبقهما أو جايلهما من تأثيرات كان لها دور في فتح الآفاق, إذ انبلج عبر كل من يحيي حقي ويوسف ادريس صبح باهر الضوء أسس للقصة المصرية الحقيقية وأخرج من رحم ابداعاتهما الغزيرة وغير المسبوقة القواعد والقوانين التي حكمت ليس فقط أقلام الكتاب في أجيال تالية بل حددت أيضا مسارات النقد الأدبي, أما المتغير الآخر فقد كان ظهور مدرسة مابعد الحرب العالمية الثانية.. المدرسة التي فرضت وجودها في جميع أرجاء العالم الأربعة.. كانت مدرسة الواقعية الاشتراكية التي ولدت في أعقاب هزيمة النازية وظهور العديد من الجمهوريات الشعبية التي اعتنقت طريق التحول الاشتراكي في المنطقة المتاخمة لحدود الاتحاد السوفيتي في شرق أوروبا قد وصلت بشاراتها الي مصر وبدأ الكثير من كتاب ومثقفي الفترة يعتنقون بدورهم ضرورة الكتابة عن البطل الشعبي المطحون والذي يحقق انتصاره بالعمل والعرق والولاء للمبادئ الاشتراكية. التقي المتغيران وأسهما في إحداث الانقلاب الذي تحدثنا عنه برغم أن يحيي حقي لم يكن اشتراكيا بمعني الانتماء للفكر الماركسي إلا أن هذا الرجل الدبلوماسي الرقيق الذي لا تملك نفسك أمامه إلا وأن تشعر بذلك الدفق من الحنان والعاطفة التي تشع من وجهه الذي تشير ملامحه الي أصل تركي ولكنك تشعر أيضا بأن هذا الأصل التركي لم يكن حائلا بين الرجل والتعبير الصادق لدرجة الصرامة عن الانسان المصري البسيط أينما كان, في السيدة زينب أو في عمق الريف بحري وقبلي ومن قنديل ام هاشم وأم العواجز الي البوسطجي ودماء وطين تتألق موهبة يحيي حقي في بساطته واستطاعته أن يعبر عن عمق الشخصية المصرية في أي محيط اجتماعي وجدت فيه, كان يحيي قريبا من قلوبنا جميعا وكنا نحبه ذلك الحب الذي يتجاوز اعجاب التلميذ بالمعلم أو تعلق القارئ بكاتب يعجب به, وكانت هناك في مشاعرنا تجاهه تلك الحميمية التي تقارب صلة الدم فكأنه العم أو الخال أما علي المستوي الفني البحت فقد تعلمنا من يحيي حقي كيف نحكي وكأننا نتبادل حديث السمر وكيف نلمس مناطق الجراح برفق المحب المشفق ومازلت أذكر مافعلته بنا قنديل أم هاشم التي قال عنها أحد عتاولة النقد في أواخر الخمسينيات إنها بمثابة دستور القصة المصرية الحديثة وكانت إشكالية الصدمة الحضارية التي تنشأ عن محاولة تطويع تراث الشرق الحياتي لمستحدثات الغرب المتفوق حضاريا تعد وقتها ثورة علي مستوي المحتوي الموضوعي للمروية القصصية, ومرت سنوات كثيرة قبل أن يتردد صدي تلك الثورة في أعمال المحدثين وأهمهم الطيب صالح في روايته الجميلة موسم الهجرة الي الشمال. ثم يأتي العملاق الآخر فارس القصة القصيرة الأول وأكاد أقول الأوحد.. أبوحجاج! ويوسف إدريس لا يمكن ان يلخص في سطور وقد ضاقت عن سيرته الكتب فهذا الفنان نسيج وحده ويمثل بمفرده قامة سامقة تعد من القامات الاستثنائية التي لا تشهدها أمة من الأمم إلا مرة أو مرتين في تاريخها كله فإدريس هو تشيكوف القصة المصرية, وأرجو ألا أكون قد ظلمته بهذه المقارنة ولكني أري ان هناك أوجه شبه كثيرة تجمع بينهما فكلاهما سيد فن القصة في بلده وإذا كان صيت تشيكوف يفوق شهرة ادريس لأنه منتشر في العالم كله إلا أن أعمالا كثيرة قد ترجمت لإدريس بجميع اللغات ووازنته الي حد كبير بالطبيب الروسي واعتقد أن يوسف إدريس لو قدر الله له أن يمتد عمره الي الآن لكان علي رأس قائمة المرشحين لجائزة نوبل في الآداب والاثنان أيضا تشيكوف وإدريس يشتركان في مهنة الطب وأعتقد أن للمهنة تأثيرا كبيرا يتضح في الكثير من ابداعاتهما القصصية, والمشترك الثالث بينهما هو الكتابة المتميزة للمسرح فكما تحدثنا في المقال السابق عن الخصائص المميزة لأدب تشيكوف المسرحي نتحدث الآن عن عالم خاص جدا لمسرح يوسف إدريس فالعم يوسف لم يكن فقط ذلك القصاص العبقري الذي قدم لنا أرخص ليالي والأورطي وبيت من لحم ومسحوق الهمس وحادثة شرف وغيرها من عشرات المجموعات القصصية هو الروائي الفذ الذي قدم لنا الحرام والعيب والبيضاء, وهو كاتب المسرح المميز الذي قدم ملك القطن وجمهورية فرحات والفرافير والمهزلة الأرضية واللحظة الحرجة والجنس الثالث, عالم رحب بديع تركنا فيه إدريس لنذكره كلما التقينا علي أوراقه ومازلنا نرتوي من مناهله وسنظل.