ما إن علمت أن كليوباترا ستكون موضوع مسلسل تليفزيوني حتي انتعشت آمالي. ذلك أن هذه الملكة المصرية المظلومة تاريخيا وفنيا تحاول الخلاص من هذا الظلم منذ بدايات القرن العشرين والي يومنا هذا. وفوجئت أوبالاحري فجعت حين اكتشفت ان المسلسل الرمضاني قد ضرب عرض الحائط بالخبرة المصرية الطويلة في هذا الشأن. نسي قطاع الإنتاج محاولات منيرة المهدية ومحمد عبدالوهاب, ثم نسي كذلك رائعه أحمد شوقي أمير الشعراء وأعني مصرع كليوباترا وأهم مافات قطاع الإنتاج الانجازات الضخمة التي حققها البحث الأكاديمي والجامعي في مجال الدراسات اليونانية الرومانية التي أسسها طه حسين عام1925 وصار لدينا الآن مالايقل عن سبعة أقسام في الجامعات المصرية للدراسات اليونانية واللاتينية وهو علاوة علي أقسام التاريخ التي تضم التاريخ اليوناني والروماني وهو موجود في كل الجامعات المصرية دون استثناء تقريبا. وربما يجهل قطاع الإنتاج أن الجمعية المصرية للدراسات اليونانية الرومانية التي تأسست عام1985 علي يد أحفاد طه حسين, أصبحت الآن عضوا بالاتحاد الدولي للجمعيات الكلاسيكيةFIEC, بحيث لايعقد أي مؤتمر دولي ينظمه هذا الاتحاد دون ان يكون اسم الجمعية المصرية علي رأس الدعوة والبرنامج. باختصار شديد الجمعية المصرية اصبحت عضوا نشطا وفعالا في مجال الدراسات اليونانية والرومانية علي المستوي الدولي, دون أن يعترف بها قطاع الإنتاج التليفزيوني المصري أو ربما دون أن يعرف أن كليوباترا تدخل في هذا التخصص وبالطبع هذا القطاع يجهل أن الآلاف التي لاحصر لها من أبناء مصر خريجي الجامعات, وهم يشكلون الجزء الكبير من جمهور التليفزيون قد أطلعوا علي موضوع كليوباترا في كتب تاريخية وأدبية ومتطورة أنجزها الجيل الراهن من أحفاد طه حسين في الأقسام العلمية المتخصصة والتي حتي الآن لانظير لها في البلاد العربية جميعا. وسأضرب مثلا واحدا بما أنجزه كاتب هذه السطور فيما يتصل بكليوباترا فله كتاب بعنوان كيلوباترا وأنطونيوس دراسة في فن بلوتارخوس وشكسبير وشوقي ويقع الكتاب في نحو ستمائة صفحة وأخذ من عمر الباحث نحو عشر سنوات, ثم اتبع هذه الدراسة بمسرحية عنوانها كليوباترا تعشق السلام ترجمت إلي أربع لغات وأجريت عليها عدة رسائل جامعية مابين الماجستير والدكتوراه في جامعات محترمة مثل جامعة القاهرة وجامعة الأزهر وأكاديمية الفنون ثم جامعة عنابة بالجزائر وجامعة أمستردام في هولندا. والسؤال المطروح الآن أين الدراما المصرية من كل ذلك؟ لقد حاول بعض النجوم النابهين مثل فهمي الخولي ومعه صفية العمري وحسين فهمي ونور الشريف,وحاول غيره من المخرجين الكبار وأبدت رغدة وآثار الحكيم وغيرهما الحماس لدور كليوباترا وعرض الأمر علي المسرح القومي والأوبرا وقطاع الإنتاج التليفزيوني في التسعينيات, فاحجموا وقالوا موضوع كليوباترا غير مطلوب لأنه ينتهي بالانتحار, والعجيب أن مشهد الانتحار هذا غير المرغوب فيه أخذ الحلقة الأخيرة في مسلسل عرض في آخر أيام رمضان ولم يعترض احد والحمد الله مع أن الأحاسيس الدينية تكون في ذروتها لقد أثبت الجمهور المصري أنه اكثر حصافة مما يتوقع قطاع الإنتاج, ولذلك كله أعجبت بالمجموعة السورية التي تصدت لهذا العمل ولاسيما سولاف الفواخرجي والمخرج.. ولكنني أسفت أشد الأسف لأن جهدهما المحمود وأقدامهما المرغوب قد أحبط وخاب سعيهما.. والسبب الرئيسي في ذلك الفشل المؤسف هو غياب الدراسة المتأنية والحرص علي الإتقان والاستعانة بالخبراء وبالقطع كان هذا هو واجب قطاع الإنتاج أي أن يزود العمل بهذه الخبرات المتوافرة في مصر فلماذا لم يفعل الله أعلم. ولايتسع المقام هنا للدخول في تفصيلات دقيقة وأوجز العيوب القاتلة التي وقع فيها المسلسل في نقاط محددة هي: أولا: تسعون في المائة من أسماء الشخصيات تنطق خطأ أو لا أساس لها من الصحة أصلا. وأوضح الأمثلة علي ذلك يخاطب يوليوس قيصر زوجته باسم خاطئ هو كالبورنيا والصحيح هو كالبورنيا وفي الحلقات الأخيرة يخاطب الجميع أنطونيوس بلقب اللورد وهو لقب لاوجود له في التراث اليوناني الروماني كله وأخذه المسلسل من بريطانيا. بعض الأسماء مأحوذة من نصوص إنجليزية أوفرنسية ولاعلاقة لها بالاصل الإغريقي وهذا العيب الفادح قضي تماما علي أي أمل في الصدق التاريخي والدرامي. ثانيا: فقدان روح العصر البطلمي والروماني ولاسيما حديث أعضاء مجلس الشيوخ الروماني عن الامبراطورية وهو مالايمكن تصوره في أواسط القرن الأول ق.م أي العصر الجمهوري. وفقدان روح العصر معناه ان كلام كل الشخصيات في المسلسل يقع خارج إطار العصر الذي يتحدثون عنه. ثالثا: عيوب درامية فادحة. فحكاية أن كليوباترا امرأة لعوب هي من ايجاد الدعاية الرمانية وصدقها المسلسل لأنه جعلها تلهو وتنغمس في الملذات مع كاري منذ أن خرجت عن الطوق مبكرا, وإذا كانت حلقات المسلسل29 فإن المخرج اضاع نصف الحلقات لتناول شخصية والد كليوباترا بطليموس فلماذا يحمل المسلسل عنوانكيلوباترا دون الإشارة في العنوان الي دسائس القصر البطلمي وهو الشغل الشاغل في نصف الحلقات علي الأقل؟ أقول ذلك وكلي أمل ان تصحو الدراما المصرية من سباتها العميق وتنتبه لهذا الموضوع الشائك. كما ان هناك الكثير والكثير من الشخصيات التاريخية التي تحتاج إلي إعادة النظر مع الحرص علي الدراسة والإتقان.