بالرغم من أن اسمها هو هيئة المساءلة والعدالة, إلا أن عملها في نظر كثير من العراقيين والمراقبين للشأن العراقي, لا علاقة له لابالعدالة ولا بالمساءلة, بل بالظلم وانتهاك الحقوق وتصفية الحسابات والعمل وفق معايير سياسية شاذة وليست قانونية وقضائية شفافة. واختصارا الخروج عن كل مقتضيات العدالة والانصاف. هذه الهيئة هي المسئولة الآن عن تصفية حسابات سياسية في لحظة حساسة للغاية, سواء بالنسبة لملف الانتخابات المقررة في السابع من مارس المقبل, أو بالنسبة لملف المصالحات السياسية العراقية بوجه عام, والذي نتصور أنه يعني مزيدا من الانفتاح علي كل أبناء العراق أيا كانت توجهاتهم السياسية والفكرية, ومزيدا من إفساح المجال للمشاركة في الانتخابات المقبلة بغية تشكيل برلمان عراقي جديد ينهي الطائفية البغيضة ويجسد المنافسة السياسية والوطنية الشريفة من أجل عراق ناهض وآمن ومستقر. لم تضع الهيئة في اعتبارها أن العراق الآن بحاجة لجهد كل أبنائه, وبحاجة إلي كل ساعد وكل عقل وكل يد تسهم في البناء والتضحية والعطاء. ولكنها وضعت في الاعتبار تهيئة المناخ لانتخابات مزورة لإرادة الوطن حتي قبل أن تبدأ, فاستبعدت600 شخصية بتهمة الانتماء للبعث أو لفكره من قائمة المرشحين للانتخابات, ومن بينهم شخصيات عرف عنها شعبيتها الكبيرة ورؤيتها الوطنية غير الطائفية, ومنهم نواب برلمان حاليون أو سابقون, ومنهم من هم بالفعل في الحكومة ويتولون مناصب رفيعة مثل عبد القادر العبيدي وزير الدفاع في حكومة نوري المالكي الحالية, ومنهم قادة شعبيون وشيوخ قبائل يرنون الي خدمة بلدهم وشعبهم. وثمة من لاحظ أن الغالبية العظمي من المستبعدين بحجة الانتماء للبعث يجمعهم أنهم سنة عرب, وكأن الهدف الاسمي هو توفير مناخ سياسي يؤدي الي برلمان تسيطر عليه فئات بعينها شيعية أو كردية, وتستبعد منه فئات أخري سنية, أو بعبارة أخري تهميش السنة العرب وإقصاؤهم عن شئون بلدهم. *** إن نظرة علي نماذج الشخصيات والكتل التي تم استبعادها تؤكد هذه المعاني السلبية وتكشف عن سطوة النظرة الطائفية في عمل مؤسسات العراق الجديد, والمشدودة الي انحيازات إقليمية لا تريد الخير للعراق أو لأبنائه. وهي نظرة أحادية بغيضة نأمل أن تزول ويحل محلها نظرة وطنية جامعة تنهض بالوطن وكل من فيه. لقد استبعدت كتلا ذات أهداف عراقية وطنية صريحة, مثل كتلة صالح المطلك وكتلة الدكتور نهرو محمد عبد الكريم, وقائمة أسامة النجيفي الذي اكتسح انتخابات الموصل الأخيرة للمجالس البلدية, وكذلك المستقل الحبوبي الذي اكتسح انتخابات كربلاء الأخيرة. واستبعدت أيضا كيانا سياسيا هو حزب العدالة الكردستاني الذي يقوده أرشد الزيباري وهو حزب كردي تخشي بعض القيادات الكردية أن يحقق مفاجآت غير متوقعة تضعف موقف الجبهة الكردستانية وتقوي موقف الأحزاب العربية في الموصل وكركوك. هذه الهيئة أي المساءلة والعدالة والتي ورثت هيئة اجتثاث البعث التي أقامها الحاكم المدني الأمريكي بول بريمر للعراق المحتل في عام2003, وكانت تختص باستبعاد وتصفية كل ما له علاقة بحزب البعث العراقي من الناحيتين العضوية والفكرية, والذي اعتبر وفقا لنظرة الاحتلال ومؤيديه ومنهم الحاكمون الجدد للعراق الكيان المسئول عن كل الكوارث السياسية والعسكرية التي لحقت بالعراق في ظل حكم الرئيس السابق صدام حسين. وحين صدر القانون الخاص بتشكيل هيئة المساءلة والعدالة في يناير2008, كان الهدف من ذلك إعادة تشكيل الموقف من العراقيين الذين كانوا بشكل أو بآخر أعضاء في حزب البعث المنحل أو متعاطفين معه, وفي مواقع قيادية دنيا, ولم يكونوا مسئولين عن أية جرائم ارتكبت في حق العراقيين, كما هو الحال بالنسبة للقيادات الحزبية الأعلي التي تورطت في هذه النوعية من الجرائم التي تدخل في نطاق جرائم الحرب أو جرائم ضد الإنسانية. *** ومن المعروف أن قوانين بريمر هذه أدت الي إقصاء أكثر من150 ألف موظف عام وجندي ومعلم من وظائفهم بتهمة تبعيتهم السابقة لحزب البعث المنحل. وبعد ان ثبت ان عمليات الإقصاء هذه مسئولة جزئيا عن ارتفاع معدلات المقاومة والعنف ضد الاحتلال وضد مؤسسات العراق الجديد تحت الاحتلال, تمت مراجعة القانون في عام2004, مما سهل عودة نحو80 ألف موظف وجندي الي مواقعهم أو منحهم معاشات محدودة تعينهم جزئيا علي مواجهة أعباء الحياة. لكي بقي عدد آخر تراوح بين20 و25 ألف شخص مشمولين بالقانون ومستبعدين تماما من الحياة السياسية والعامة, وممنوعين من الحصول علي رواتب أو معاشات, كما لم يصدر بحقهم أية أحكام قانونية من قبل محاكم شرعية, وهو ماجسد تماما الطبيعة السياسية الإقصائية التي تسيدت عمل هيئة اجتثاث البعث وهيئة المساءلة والعدالة. حتي في لحظة اعتبرت بداية تحول نسبي تهدف الي تخفيف الضغوط علي العراقيين الذين تعرضوا لظلم بين وتهميش مقصود ومنهجي, في الوقت نفسه الذي ظلت فيه قيادات هذه الهيئات في توجيه الاتهامات لمن اعتبروا مشمولين بهذا القانون سييء السمعة بأنهم علي علاقة بمنظمات ارهابية أو ارتبطوا بالقاعدة ومتورطون في أعمال العنف وأنهم مازالوا يحلمون بانقلاب عسكري علي مؤسسات النظام الجديد, وذلك بغية إضفاء شرعية علي عمليات التهميش بحق هؤلاء, والذين تصادف أن غالبيتهم العظمي انهم من السنة. كان مفهوما أن إنشاء هيئة جديدة في يناير2008 يعني إلغاء للهيئة القديمة سيئة السمعة والصيت والأداء, وكان يعني تعديلا رئيسيا في التوجهات الرئيسية للنظام الحاكم, وكان يعني أيضا أن الهيئة الجديدة التي لعب الأمريكيون دورا كبيرا في إنشائها رغما عن توجهات حكومة المالكي وحلفائه السياسيين, سوف تقوم بتطبيق معايير قانونية بالدرجة الأولي للحكم علي أوضاع هؤلاء البعثيين وتهيئة المجال لمصالحة شاملة تنهي حالة الاستبعاد والتوتر واللا أمن الغالبة علي ربوع العراق. غير ان الأمر لم يتطور علي هذا النحو, فقد ظلت الهيئتان تعملان في الآن نفسه وفقا لمفهومين مختلفين شكلا, ولكنهما اتحدتا مضمونا, وبدلا من تطبيق القانون علي الجميع دون استثناء طبقت المعايير السياسية وفقا للإشارات التي تأتي سواء من داخل العراق أو من خارجه. خاصة أن الرجل الذي رأس الهيئة الجديدة عرف عنه ارتباطه بإيران ونزعته الطائفية الغالبة. *** والسؤال الذي يطرح نفسه هنا, أين كانت هذه الهيئات من مشاركات النواب والوزراء وبعض القيادات الأمنية التي أعيدت الي العمل بعد العام2004 ؟ ولماذا لم تطالب من قبل بتنحيتهم أو استبعادهم عن الشأن العام؟ ولماذا تحديدا قامت باستبعادهم حين ظهرت رغبتهم في المشاركة السياسية عبر الانتخابات المقبلة ؟ الاجابة هنا ليست معضلة وقوامها أن الهيئتين الجديدة والقديمة انتظرتا اللحظة الحاسمة التي تسبق الانتخابات بفترة وجيزة, وأعلنتا قراراتهما بتجريد شخصيات من حقوقهم السياسية في خطوة تهدف الي إبعاد فئات عريضة من الشعب العراقي عن العملية السياسية, التي يفترض أنها لبناء عراق جديد لكل أبنائه, فإذا بهذه الخطوة البعيدة كل البعد عن أي حصافة أو حكمة سياسية, تقود العراق الي مرحلة أخري من الهدم والاستبعاد والاقصاء والتهميش للسنة, وتحكم علي الانتخابات المقبلة بأنها مطبوخة مسبقا. وهكذا يبدو لي ان قرار استبعاد14 كتلة سياسية و600 مرشح, وربما يزيد العدد الي نحو الألف مع الاقتراب أكثر من موعد الانتخابات مطلع مارس المقبل, هو قرار ينعي العملية الديمقراطية التي عول عليها كثيرون بالداخل والخارج في وضع العراق علي الطريق الصحيح, هو قرار يدعو المواطنين العاديين قبل السياسيين المحترفين الي الانسحاب من دائرة المشاركة تحت مظلة القانون والانخراط أكثر وأكثر في تنظيمات مسلحة تستخدم العنف من أجل إثبات وجودها والحصول علي حقوقها. إنه قرار إقصائي لا علاقة له بالديمقراطية أو بالمشاركة. ومن هنا يظهر فساده وغباؤه وشموليته.