عرفت حسن سليمان من جلوسنا في الساحة الخارجية لمقهي ريش أيام الاعداد لإصدار مجلة( جاليري68) بعد عدة لقاءات أخذني الي مرسمه في شامبليون. ورأيت المكان وأدهشني ما احتواه من مقتنيات بالغة القيمة. ثم غادرنا في طريقنا الي المقهي مرة أخري. مشينا في الممر الضيق الذي يوصلك من26 يوليو الي سليمان, حينئذ طلبت منه أن يعطيني لوحة. وهو تطلع الي بعينيه الذكيتين ولم يعلق. وأنا أضفت: أي لوحة, مش مهم حجمها. وعلي مدي ما يقرب من أربعين عاما صارت هذه همزة وصل فيما بيننا. فإذا التقينا ونسيت, ظل ينتظر حتي أكرر الطلب. ولما أعاكسه ولا أكرر يلتفت لمن يكون حاضرا ويفسر له: أصله عاوز رسمايه مني. وننصرف. والآن, ما حفزنا علي هذا الكلام هو الكتاب البديع الذي صدر عن المركز القومي للترجمة نساء حسن سليمان لصديقتنا الكاتبة عبلة الرويني. وعبلة الرويني ليست مجرد كاتبة مهمومة بالشأن الثقافي العام من حولها, بل هي تتمتع بقدر نادر من الحساسية والوعي إذ تتناول هذا المنتج الفني أو ذاك, كما أنها تتمتع بضمير نقدي يمكنك الركون إليه في زمن ليس يمكنك فيه الركون الي شيء. من ناحية أخري هي لم تكن مجرد رفيقة عمر قصير عاشه صديقنا وشاعرنا الكبير الراحل أمل دنقل. أنا أعلم أنه لم يكن ممكنا أن يصطفي سيدة أقل. وهي أحسنت إذ تذكرنا في الصفحات الأولي بأن مدرسة الفنون الجميلة في مصر جاءت نشأتها علي يدي الأمير يوسف كمال في عام1907 بعدما كان فضيلة الإمام محمد عبده قد قال مدافعا عن هذه الفنون الجميلة في مواجهة المتزمتين الدينيين والمتطرفين حيث قال: إن هذه الرسوم والتماثيل قد حفظت من أحوال الأشخاص في الشئون المختلفة.. مايستحق أن يسمي ديوان الهيئات والأحوال البشرية. إن الراسم قد رسم والفائدة محققة لا نزاع فيها, وبالجملة يغلب علي ظني أن الشريعة الإسلامية أبعد من أن تحرم وسيلة من أفضل وسائل العلم, بعد أن تحقق أنه لا خطر منها علي الدين, لا من جهة العقيدة, ولا من جهة العمل. قيل ذلك في بدايات القرن العشرين, وفي السبعينات من نفس القرن صدر قرار بإلغاء الموديل العاري من كلية الفنون الجميلة, هكذا غابت الموديل لتظهر فقط في مراسم الفنانين, ولان الشرط الاجتماعي القائم لا يسمح بعرض اللوحات العارية, فان فنانا مثل حسن سليمان كان يرسم الموديل عارية ثم يقوم بإلباسها الثوب فوق اللوحة, ودائما ما تحدد الانحناءات والثنيات في الجلباب موسيقي هذه اللوحة وإيقاعها. وتحدثنا عبلة الرويني عن هذا الرسام الذي انشغل منذ بداياته بالطبقات الفقيرة بروحها الشعبية الأصيلة التي تعكس روح الحارة المصرية في انحناءاتها وبيوتها القديمة. هذه الطبقات الكادحة التي ألهمته وجعلته, شأن كل مبدع كبير, دائم الانشغال بأدوات تعبيره وتطويرها حتي يكون أهلا للتعبير عن هؤلاء الأنفار وعن بعض نسائها ممن ارتضين أن يخلعن ثيابهن في المراسم وهن يدركن قيمة دورهن في بناء اللوحة. تقول حميدة بطلة لوحات محمود سعيد الشهيرة: عندما كنت أجلس ليرسمني كنت أشعر بالزهو والفخر لأني كنت أري نفسي بعد ذلك في لوحة جميلة, وكم كانت سعادتي عندما رأيت المجلات تنشر صوري وأيضا علي صفحات الجرائد والمعارض, وكلما كنت أحن الي شبابي, أذهب الي المتحف لأري مراحل عمري المختلفة. وحسن سليمان الذي كان أعتنق الماركسية مبكرا لم يفرض علي اللوحة منطقا سياسيا ولا مباشرا. كان يؤمن بأن الفن لايضع نوره. بل هو يضاعف من توقنا للتكامل المنطقي. ولوحدة الإيقاع في الحياة من حولنا, ويجدد رغبتنا أن نعيش حياة أفضل, وتجتزيء الرويني من أرسطو: من لايحس بالمنطق, لا يقف علي قبري. لكم تمنيت أن أحدثك عن الكثير من تأملات عبلة الرويني في عوالم حسن سليمان, وصفها لمرسم الفنان متعة وحده, حديثها عن ألوانه الساخنة وسعيه لنفي الوظيفة الرمزية للون وغيرها عشرات من قضايا التعبير التي تناولتها بفهم وحساسية, الأمر الذي وفر للكتاب كل هذه المتعة.