سألني بعض الأصدقاء بما يعنيه المثل الذي استعنت به في مقالي السابق عن مدينة( كلا ولا), وهو( حنك ما يكسرش حنك), وقد أسعدني التوقف عند هذا المعني مرة أخري ليكون مدخلي لتوضيح وتلخيص أمور عدة. ومعني المثل أن المقاذعة في الكلام لا توصل الي نتيجة ولا تقضي الي نجاح, فالسب والتهكم وممارسة الجدل بمهارة اللغو والسفسطة, يستدعي نقيضه من نفس نوعه في الطرف المقابل الذي تسقط عليه المقاذعة, فيردها بأعنف منها, مما يعني السقوط في هاوية الانحطاط الاخلاقي وهو النتيجة الطبيعية لبذل الجهد والفكر في كيفية النيل من الأعداء بالحط من قدرهم, والخوض في شرفهم, والتقول والافتراء علي أعراضهم, والتشكيك في نواياهم وأفعالهم وأقوالهم.. ولذا قال( أحمد شوقي) الشاعر الغني عن التعريف: إذا أصيب القوم في أخلاقهم فأقم عليهم مأتما وعويلا! اختلاف المعايير الأخلاقية من مجتمع لآخر, ومن زمن لآخر في نفس المجتمع, أمر متفق علي حدوثه في الثقافات المختلفة ولكن اختلاف المعايير الأخلاقية في نفس المجتمع وفي نفس الزمن نذير بعلامات الانهيار الاجتماعي, ونشوب الصراع, وحدوث الأزمة التي قد تنفجر ثورة أو إصلاحا كما يري( هيجل), وحتي تسير الأمور في الاتجاه الإصلاحي المفيد بدلا من الثوري المدمر, علينا أن نحاول الاجتهاد في رسم صورة للمدينة الفاضلة في الزمن الراهن, التي ولابد أن تنطبع علي شاكلته, فتكون مدينة عالمية فاضلة! الحاجة الي المدينة الفاضلة ملحة, بعد أن ضعف الإيمان بالأخلاق كأساس للتعامل بين الأفراد والدول والحضارات, فعلي مستوي الأفراد تكاد تصبح ظاهرة أن الخلاص الفردي لأي مشكلة هو القاعدة, ولو كان علي حساب القوانين التي تنظم العلاقة بين الأفراد بعضهم بعضا, لتعطي كل ذي حق حقه, وأصبح كل خلاف يستدعي الملاسنة وأحيانا الشتم والإهانة والتعريض, مما يفضي لاستخدام العنف أو علي الأقل استعراض القوة وهو ما يؤدي في غالب الأحيان الي خبر تافه عن جريمة في صفحة الحوادث, تسبب فيها مشاحنة أتفه. لأفراد ضعفت أخلاقهم فضاعت حياتهم! وعلي مستوي الدول تأتي المصالح في المرتبة الأولي والقصوي, وهي سبب قيام الدولة في الأساس للحفاظ علي مصالح الأوطان, ولكن تحقيق هذه المصالح لم يعد نافعا أن تكون علي حساب الآخرين, خاصة الضعفاء, فأصبح هناك أصحاب للحقوق ينادون بها, ويطالبون بحقهم في الحياة, إن لم يكن بالحسني فبالعنف, ومنطق العصابات المسلحة في أمريكا اللاتينية علي سبيل المثال: أن الديمقراطية لا تخدم إلا مصالح طبقة الأغنياء, أما نحن الفقراء فليس أمامنا إلا الموت أو حمل السلاح! أما علي مستوي الحضارات فهناك محاولة دؤوبة لتحويل العلاقة فيما بينها علي أساس صراع عنيف, لتبرير وتسويغ الحروب, والتي يضمن فيها الطرف الأقوي النصر كبديهية محققة, ولكن هذه البديهية جبتها بديهية أخري, بأنك تستطيع أن تبدأ الحرب ولكنك لا تستطيع إنهاءها كيفما تريد, وهو ما حدث في الحرب الوهمية علي الارهاب في العالم الإسلامي وهي حرب تحمل في طياتها الكثير من الأكاذيب الخفية أخطر من الأكاذيب المفضوحة! فهناك صراع بين اتجاه يزجي نيران الصراع بين الحضارات, وآخر يناضل من أجل إرساء قواعد الحوار البناء فيما بينها, لتتعايش في سلام يقوم علي تنافس الشعوب المنتجة حضاريا, فيكون تنافسا يحقق معني الآية القرآنية الكريمة: استبقوا الخيرات! ولا تخرج واقعة القس النكرة في ولاية فلوريدا الأمريكية الذي كان يدعو لحرق نسخ من القرآن الكريم إلا حلقة مشبوهة في إزجاء صراع الحضارات, وليس أسهل من فتح أبواب التعريض به, وخاصة أن هناك شكوكا قوية في سلامته العقلية والنفسية, ولا يمثل تيارا يذكر في أمريكا, وأيضا اعترف بأنه لا يعلم شيئا عن الإسلام ولم يقرأ كلمة في القرآن الكريم, فمثل هذا الجاهل من السهل النيل منه بالحنك ولكن كما أسلفنا فإن( حنك ما يكسرش حنك), فالملاسنة والشتائم علي أي صعيد غير مجدية, كما أنها لا تحقق شيئا إلا بالانتقاص من قدر الشاتم أكثر من المشتوم. الطريق الأجدي هو العمل علي إقامة قواعد التواصل الحضاري والتفاهم الإنساني لتتحالف شعوب العالم الإسلامي مع غيرهم من الشعوب لإقامة حضارة عالمية جديدة تضع مصالح الجميع في الحسبان, فالحضارة كما يري الفيلسوف الجزائري العظيم( مالك بن نبي) واحدة, وهي تسير كما تسير الشمس, تدور حول الأرض مشرقة في أفق هذا الشعب, ثم تحوله إلي أفق شعب آخر, وبما أن العولمة أصبحت حقيقة واقعة فجعلت العالم وحدة واحدة تضم شعوبا مختلفة, ولكنها تواجه مشاكل مشتركة, تتطلب تضافر الجهود لمواجهة مخاطر الاحتباس الحراري والتصحر والأمراض الفتاكة ونقص الموارد والغذاء والتطرف وغيرها من المشاكل, التي لن تقدر دولة, مهما كانت عظمي لا علي حلها ولا علي السيطرة علي الآخرين ولهم ولنا العبرة من( أفغانستان) البلد الفقير المريض التي فشلت أكبر قوة في التاريخ من السيطرة عليه ولو شكليا للحفاظ علي ماء الوجه! فأكبر خدمة يمكن أن تفيد العالم الإسلامي أن يخلع عن نفسه عبء تقييم الآخر له والشعور بالعار, فينتقص من كل محاولة للسب والقذف من الموتورين والجهلة علي شاكلة قسيس فلوريدا, فإذا أتهم نفر من المسلمين الغاضبين في أحداث(9/11) المشئومة, وهي تهمة لها تاريخ من الصراع الظالم للمسلمين, ولها أيضا مدبرون مخفيون لم يكشف عنهم الستار بعد, إلا أن أمريكا الدولة الرسمية هي أول من ضرب المدنية بالقنابل الذرية في هيروشيما وناجازاكي رغم أن الحرب العالمية الثانية كانت علي وشك الحسم لصالح الحلفاء ولم يكن هناك مبرر لها, اللهم إلا استعراض القوة الأمريكية الجبارة! فالأخطاء التاريخية لا سبيل لتعديلها, والتطلع للمستقبل أفضل وكما علم العرب والمسلمون العالم المنهج العلمي والتجريبي, فكان الاسهام الحضاري الذي دفع الحضارة الي الأمام, وكما حفظ الفكر الإسلامي التراث الإنساني القديم, يمكن أن يقدم العرب والمسلمون مشروعا حضاريا حديثا يستفيد من الأساس الفكري الإسلامي الذي يقوم علي احترام جميع الحضارات والعقائد, فتصبح مدينة( كلا ولا) المقترحة مدينة عالمية! وتقوم هذه المدينة الفاضلة علي قيم مفتوحة تتقبل أوضاعا مختلفة, فلا تحد من حرية الناس بإلزامهم بالتفاصيل الصغيرة, وتستوعب الأخطاء الثانوية. فهل يستطيع المسلمون التبشير بالمدينة الفاضلة والعالمية وتطوير تجاربهم الايجابية التي حدثت في تركيا وماليزيا وغيرها والاسهام في التقدم الحضاري أم سنظل في نفق السفهاء.. حنك مايكسرش حنك. المزيد من مقالات وفاء محمود