أرض الطيور فوق السحاب.. كان اسم المدينة الفاضلة التي تخيلها المؤلف الاغريقي القديم( أرستوفانيس) قبل الميلاد, في أهم مسرحياته وأطولها, والتي تعتبر نموذجا متكاملا للفانتازيا الاغريقية القديمة وهي( الطيور) التي تسخر من الحياة الصاخبة في أثينا المليئة بالجدل العقيم حول القوانين والفلسفة دون طائل إلا السفسطة والتضليل.. أما المدينة التي أتخيلها في زمننا المعاصر فأسميها مدينة( كلا ولا), لأن العرب إذا أرادوا التعبير عن صغر مدة حدوث شيء أو قلة استمراره قالوا: كلا ولا, فكان فعله كلا ولا, أي حدث الشيء وكأنه لم يحدث, وأن أثره تم محوه بسرعة غير متوقعة, وللأسف في تاريخنا العربي المعاصر الأشياء الجيدة دوامها كلا ولا, فأي خطوة جيدة الي الامام تجد من يتربص بها شرا, ويعمل علي إجهاضها دون مقاومة مرتبة ومنظمة إلا فيما ندر, ومدينة( كلا ولا) الفاضلة لن تدوم إلا لحظات قراءة هذا المقال, فهي ليست حقيقة ولدت علي أرض الواقع, فما هي إلا تخاريف صيام! مسرحية الطيور من أكثر المسرحيات إلهاما للفنانين حتي وقتنا الحاضر فتمت اعادة تقديمها في جميع مسارح العالم, برؤي معاصرة خاصة بالبيئة التي تقدم فيها لحداثة أفكارها علي قدمها, وروعة مناظرها الخيالية, وطرافة حوارها وشخصياتها. أيضا قدمت نمطا خالدا للصداقة العميقة القادرة علي الاستمرار بين بطلي المسرحية, وهما( بيسيتيراس) ومعناها الصديق المخلص, و(يوليبيديس) بمعني الأمل الجميل. وتدور المسرحية عن زهق( بيسيتيراس) من فساد المجتمع الاثيني, والبحث عن مجتمع جديد, فبحث مع صديقه عن الملك( تيريوس) الذي سبق وتحور وأصبح هدهدا ليأخذ نصيحته في اقامة مدينة للطيور فوق السحاب يؤسساها حسب تقاليد وقوانين جديدة تمكن الطيور البلهاء, الذين يطيرون يمينا ويسارا دون هدف وعرضة للقتل والذبح دون مقاومة, من قطع الاتصالات بين الالهة في السماء, والبشر في الأرض, فيتحكمون في الطرفين, ويأخذون حقوقهم المسلوبة من آلهة الأولمب المغتصبين, ومن البشر المخادعين, وافق الملك السابق والهدهد الحالي علي الفكرة, ووعد بالمساعدة واستدعي جميع أنواع الطيور من كل مكان في الحقول والسهول والبحار والانهار والجبال, وأخذت أفواج الطيور في الحضور وهو مشهد خيالي رائع ولكنهم يجفلون عندما يحسون بوجود بشر, فيطمئنهم الهدهد, ويطرح عليهم الفكرة بأن يتحدوا لايجاد عالم من الطيور يستمر الي الأبد, وأن بروميثيوس( سارق النار) وعد بمساعدتهم, فأطمأنت الطيور وأخذت في عرض المظالم التي يتعرضون لها مع أنهم الالهة الحقيقية أبناء آلهة الأولمب, وأقروا الصفات التي يقلدهم فيها البشر بينما الأمور الصعبة يعجز عنها البشر, ويأتونها هم معشر الطيور بسهولة, كضرب الأباء وتحقيق البلوغ الفعلي لا الشكلي, ومازالت هناك مجتمعات في العصر الحديث لا تستطيع أن تخرج من عباءة السلطة الأبوية حتي الآن, خاصة في العالم العربي والاسلامي, بالرغم من المعني القرآني الذي حذر من التقليد وجاء في القرآن الكريم: وكذلك ماأرسلنا من قبلك من نذير إلا وقال مترفوها أنا وجدنا آباءنا علي أمة وإنا علي آثارهم مقتدون, قال أولو جئنكم بأهدي مما وجدتم عليه آباؤكم؟! قالوا: إنا بما أرسلتم به كافرون صدق الله العظيم. تحور الصديقان( بيتيراس) و( يوليبيديس) إلي طائرين بعد مضغ نبات سحري, وقام( يوليبيديس) ببناء المدينة أما( بيسيتيراس) فقام بالإعداد لقيم وقوانين المدينة, وذلك الأهم لاعتقاده أن إتفاق أعضاء المجتمع في الرأي أي باللغة المعاصرة الاجماع الوطني علي القيم والمعايير أساس قيام المجتمع حتي لو كان السلوك مغايرا لهذه المعتقدات, لكن الايمان بها وبصحتها رابطة لاغني عنها في استمرار النسق الاجتماعي, كأن( بيسيتيراس) كان يضع الأساس الذي وضع عليه عالم الاجتماع المعاصر( تالكوت بارسونز) نموذج التوازن في بناء النسق الاجتماعي الذي يقوم علي الاتفاق علي القيم والمعايير وايضا علي المنفعة المتبادلة نتاج الحياة الاجتماعية المشتركة! ولأن البناء الذي يعد له( بيسيتيراس) مازال في مهده فقد طرد وطارد المتسللين إلي مدينته الجديدة, ممن أفسدوا الحياة الاثينية كالشعراء المأجورين, ومدعي الحكمة الذين يبيعون التنبؤات, والمخبرين وناظمي القوانين.. الخ, ففي بداية نهضة ما لابد من قدر من الضبط والمنع والالزام الخارجي, حتي تقوي هذه النهضة, ثم تدافع عن نفسها ذاتيا, ولو حاولنا تطبيق ذلك علي مدينة( كلاولا) فأول ما أعتقد يجب منعه هو جهاز( التليفزيون) وما فيه من برامج ومسلسلات وصخب وضجيج وتضليل وتمثيل كلها لا تخلق إلا التشويش والاخفاء أكثر من الاخبار, ويتم بناء الفرد والمجتمع بمؤسسات التربية والتعليم والفنون التلقائية حتي يشتد عود كل فرد, فعندما تتسلل إليه هذه الموبقات بعد ذلك, لا تجد منه إلا كل إهمال واشمئزاز, فمصدره في المعلومات وتكوين الرأي يصل إليه بنفسه من مصادر المعلومات دون وسيط من الكتاب والانترنت! فالتراشق الاعلامي الساذج والمدبر في الفضائيات لا يفضي إلي تكوين رأي بل زعزعة الايمان بالرأي وان كان صائبا أو قانونيا, فهذا التراشق ما هو إلا تأكيد للمثل الشعبي بأن: حنك ما يكسرش حنك, وفي النهاية لا يوجد فائز فالجميع خاسرون! وإن استعنا بنفحات شهر رمضان المبارك نستطيع أن نضع تصورا لمدينة( كلا ولا) يستفيد من المعاني العظيمة في القرآن لنضع أسسا لهذه المدينة في العصر الحالي الذي أصبح فيه العالم قرية صغيرة, فالعالم أصبح عند أطراف أصابعنا, ولذلك ليس أصلح من أساس ديني يقوم علي الفكرة القرآنية: فأقم وجهك لله حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها, فالفطرة البشرية لا يختلف عليها أحد من مختلف المعتقدات, فالقيم الدينية المشتركة من السهل ان يجتمع العلماء في تحديدها وتعليمها لافراد المجتمع, خاصة أن الاسلام يعترف بكل الاديان السماوية, ويؤمن بها فيحترم اليهودية كما النصرانية بل أيضا يعترف بالمعتقدات الاخري ويدرجها العلماء في نظاق الاديان المحرفة, ولكنها, تحافظ علي مجموعة من الاسس الدينية التي جاء بها المرسلون من قبل تبعا لقول الله تعالي: وإن من أمة إلا خلا منها نذير, وايضا: منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص. صدق الله العظيم من هنا يتضح أن أنبياء الله ورسله كانوا يبشرون بدينه الحنيف علي مر العصور في سائر الامم, وهاهي. في الزمن الحالي تتعارض رغما عنها, فحتي تعيش في سلام يجب توحيدها مبدئيا علي قيم إنسانية مشتركة تتناسب مع معتقداتهم الاصلية, وسماحة الإسلام تنبع من احترامه لجميع العقائد لذا نستطيع ان نستعين بجميع الحضارات في تأسيس مدينة كلا ولا الرمضانية. وللحديث بقية. المزيد من مقالات وفاء محمود