علي وقع تسريبات إعلامية عدة بأن لجنة التحقيق الدولية بصدد توجيه الاتهام في مقتل رفيق الحريري الي حزب الله أو أحد عناصره الناشطين, تحفز الحزب علي كافة المستويات من أجل تفنيد القرار الظني, استباقا لصدوره في نهاية العام وحتي لاتصبح له حجية تتأسس عليها مواقف جديدة سوف تؤدي إلي الاخلال بموقف حزب الله والتوازن احرج للمعادلة اللبنانية. كان حزب الله قد دفع بفرضية تورط إسرائيل في اغتيال الحريري منذ اللحظات الأولي للاغتيال, إلا أنه لم يكن معنيا من قبل بتتبع التحقيق بشكل مباشر عدا انتقاد عدم مهنيته, عندما كان في عهدة القاضي الألماني ديتليف ميليس. وحتي عندما عارض وزراء حزب الله وحلفاؤه في مجلس الوزراء بعض بنود الاتفاق الدولي بشأن إنشاء المحكمة الدولية نهاية العام2005, كان تحفظ الحزب يقضي بتحديد مهمة المحكمة باغتيال الحريري وبالاغتيالات التي تلته فقط, وذلك لتخوف حزب الله من أن تتوسع المحكمة الدولية في عملها فتحقق مثلا في التفجيرات التي استهدف بها حزب الله القوات الدولية العاملة في لبنان بين عامي1982 و1984 والتي جاءت في سياق رفض اتفاق السلام الذي عقد بين لبنان وإسرائيل في تلك الفترة قبل أن يسقط سريعا ويتم إلغاؤه. ولكن الجديد في موقف حزب الله هذه المرة أنه لم يكتف بانتقاد عمل لجنة التحقيق بل بدأ يشكك في النتائج التي من المتوقع أن تصل إليها, وتقدم خطوة للأمام وطرح معطيات جديدة تعزز من فرضية تورط إسرائيل في اغتيال الحريري من أجل تتبع هذا الخط لجلب الإسرائيليين للتحقيق. فعقب اغتيال الحريري قام حلفاء سوريا في لبنان ومن ضمنهم حزب الله, بانتقاد التسرع في توجيه الاتهام السياسي للنظام السوري وتجاهل التحقيق الدولي للفرضيات الأخري كتوجيه الاتهام للموساد أو للجماعات الجهادية العنيفة أو المافيا الدولية باعتبار أن الحريري كان له أعمال ومشروعات في كافة أنحاء العالم. وركز هؤلاء علي أن تسارع التحقيق باتجاه سوريا يدل علي وجود نية مسبقة ويعتمد علي أدلة أعدت علي عجل ما لبثت أن تساقطت الواحدة تلو الأخري. حيث بني ميليس اتهامه لسوريا علي مجموعة من الشهادات لأشخاص ادعوا أنهم كانوا متعاونين مع المخابرات السورية التي كلفتهم برصد موكب الحريري وتعقب تحركاته وذكروا أسماء عدد كبير من أركان النظام السوري والأجهزة الأمنية اللبنانية باعتبارهم متورطين مباشرة في جريمة الاغتيال. غير أن هؤلاء الشهود قد ثبت تورطهم بالإدلاء بإفادات وهمية تستهدف توريط سوريا واعترفوا طواعية في مؤتمرات صحفية متتالية في عامي2005 و2006 أنهم قد ضللوا المحكمة. وهكذا سقطت سريعا الفرضية السورية بعد أن أثارت ضغوطا دولية هائلة هددت استقرار النظام السوري وتسببت له بعزلة دولية غير مسبوقة. ومنذ تولي سيرج برامرتس ثم دانيال بلمار رئاسة لجنة التحقيق بدأ التحقيق ينحو نحو السرية وتجنب الإفصاح عن تفاصيله لوسائل الإعلام لضمان عدم تسييسه وإبعاده عن مفردات الجدل السياسي اللبناني. وفي بداية العام الحالي استؤنفت التسريبات الإعلامية التي أفصحت عن بعض تفاصيل التحقيق وتضمنت استدعاء عدد من عناصر حزب الله للحصول علي إفادتهم بشأن الاغتيال. فسارع الحزب بالإعلان عن أن بعض عناصره قد استجابوا لطلب المثول للشهادة من جانب لجنة التحقيق حرصا علي تتبع الحقيقة. ولكن مع تواتر التسريبات تأكد لدي الحزب أن لجنة التحقيق بصدد توجيه الاتهام لعناصره, الأمر الذي جعله يتصرف علي نحو مغاير. فبالنسبة له لم يعد من قبيل الترف السياسي متابعة تفاصيل التحقيق, بل صار نوعا من الدفاع عن النفس واستباق الهجوم بهجوم مضاد من خلال تقديم عدد من المعطيات التي تتهم إسرائيل. وقد استفاد الحزب في هذا السياق من سقوط عدد كبير من الجواسيس الاسرائيليين فاق عددهم السبعين جاسوسا في قبضة الأجهزة الأمنية اللبنانية خلال العامين الماضيين وتقديمهم لإفادات تفصيلية تثبت تورطهم بشكل جزئي في اغتيالات جرت علي الأرض اللبنانية بحق قيادات ميدانية من حزب الله, حيث تراوحت مهمات هؤلاء الجواسيس بين تعقب الشخصيات المستهدفة ونقل أسلحة ومتفجرات وإيواء عناصر من الموساد دخلت لبنان عبر البحر لتنفيذ الاغتيالات المذكورة. فضلا عن سقوط ما لا يقل عن ثلاثة جواسيس كانوا يعملون بقطاع الاتصالات اللبناني اتهموا بتزويد إسرائيل بمعلومات تفصيلية عن أماكن تواجد الشخصيات المستهدفة وخط سيرهم ومحتوي اتصالاتهم, ولكن الأهم من ذلك انه كانت لهم القدرة أيضا علي التلاعب بالبيانات التي تطلبها لجنة التحقيق الدولي لتحديد من كان موجودا في مسرح اغتيال الحريري. والواضح للمتابعين للتقارير المتعاقبة للجنة الدولية أنها شيدت اتهامها علي أساس الشهادات التي ثبت أنها مزورة من جهة وبيانات الاتصالات من جهة أخري, الأمر الذي جعل حزب الله وحلفاءه يتخذون موقفا رافضا ومشككا في مجريات عمل المحكمة علي أساس أنها كما حصرت اتهامها بسوريا من قبل سوف تحصر أيضا أدلتها وبراهينها تجاه حزب الله علي وسائل قابلة للاختراق من جانب الموساد الإسرائيلي. الأمر الذي دفع حزب الله الي تصعيد رفضه لنتائج التحقيق الدولي قبل أن يتم إعلانها واعتبارها مؤامرة للنيل من المقاومة ودورها في لبنان. في هذا السياق جاءت الزيارة الثنائية للعاهل السعودي والرئيس السوري للبنان من أجل تثبيت الاستقرار الداخلي اللبناني علي وقع التفاهم الإقليمي السعودي السوري. والأرجح أن محتوي التفاهم الذي لم تتكشف كامل تفاصيله بعد, اعتمد علي تعهد شخصي من جانب الملك عبد الله بعدم السماح باستغلال المحكمة الدولية للنيل من حزب الله مقابل تثبيت الهدوء اللبناني ووقف حزب الله لتهديده بتقويض الاستقرار. وعليه باشر الأمين العام لحزب الله خلال المؤتمر الصحفي الذي عقده إلي الكشف عن قرائن وجه من خلالها الاتهام لإسرائيل باغتيال الحريري عبر ما توفر لها من إمكانيات تقنية وعناصر بشرية نشطت في لبنان. فمن أهم ما كشفه حزب الله في هذا الصدد هو تمكنه من اختراق شبكه إرسال طائرات الاستطلاع الإسرائيلية وتسجيله لأغلب ما تلتقطه هذه الطائرات التي تحلق بشكل شبه يومي في سماء لبنان. ومن ضمن ما التقطه الحزب رصد الطائرات الإسرائيلية لخط سير موكب الحريري وتركيز التصوير علي المنحنيات التي يسهل استهداف الموكب بها. ورغم أن حزب الله قد كشف بذلك سرا عسكريا كان يساعده علي رصد محتوي الطلعات الاستطلاعية للطيران الإسرائيلي مما يفقده هذه المزية في صراعه مع إسرائيل, إلا أنه اعتبر أن حماية لبنان من الفتنة الداخلية التي قد يسببها اتهام المحكمة للحزب يستحق التضحية بمثل هذا السر. اللافت أيضا أن نصر الله قد تعهد بالكشف عن سر نوعي آخر يثبت بشكل قاطع ارتباط أحد جواسيس إسرائيل باغتيال الحريري بشرط تأكده من جدية التحقيق مع الجانب الإسرائيلي كي لا يكون قد كشف سرا مجانيا دون أن يضمن نجاته من طائلة الاتهام. وهنا تثور التساؤلات عن مستقبل التحقيق في ضوء المعطيات الجديدة, مثل المدي الذي يمكن أن يبلغه التحقيق الدولي في فرضية اتهام إسرائيل بعد أن تسلم الإدعاء العام جزءا كبيرا من القرائن التي قدمها حزب الله. من جهة ثانية يبرز الصمت اللافت الذي يلف موقف رئيس الوزراء سعد الحريري الذي تجنب التعليق علي هذه المستجدات بينما أعلن ساسة قريبون منه أن القرائن ليست كافية لاتهام إسرائيل واستمرار قناعتهم بمهنية التحقيق الدولي. من جهة ثالثة من الممكن أن يفحص التحقيق القرائن الجديدة ثم يقول بعدم حجيتها ويعلن الاستمرار في اتهام حزب الله, أو ربما تستخدم هذه القرائن لتثبيت الاتهام لحزب الله بحيث يتم الدفع بأن التصوير الاستطلاعي كان بحوزة الحزب كما هو بحوزة إسرائيل ومن ثم كانت لكليهما القدرة علي استخدامه في الاغتيال, أو أن هذه المشاهد المصورة مقتطعة من آلاف المشاهد الأخري وبالتالي لا تكفي بذاتها لتكون دليلا. وفي المقابل, من المرجح أن يستمر حزب الله في تحليل المعطيات المصورة التي بحوزته في انتظار أن يكشف السقوط المتوالي للجواسيس الإسرائيليين عن دلالات جديدة لهذه المعطيات يضيف لحجيتها ويربط بين أحداثها ويفسرها. وفي هذه الأثناء سيبقي الصراع بين حزب الله والمحكمة الدولية محتدما حيث أن إثبات مصداقية أحدهما صار كفيلا بنفي مصداقية الآخر.