باعلانها في منتصف الأسبوع الماضي استمرار تدريس رائعة عميد الأدب العربي الأيام لطلاب الثانوية العامة, أنهت وزارة التربية والتعليم الأزمة التي فجرتها مطالبة بعض الجهات بحذف الكتاب باعتباره عملا يسيء للأزهر الشريف. وبالرغم من أن تصريحات المسئولين بوزارة التربية والتعليم قد ذيلتها عبارات تقدير للعمل باعتباره عملا تنويريا مهما,فإنني أظن أنه من الصعوبة بمكان أن نتصور أن القضية قد حسمت نهائيا, أو أن المشكلة تخص كتاب الأيام فقط أو طه حسين تحديدا, بتاريخه المعروف و معاركه الشهيرة مع التيارات السلفية, أو أن نتصور أن أيام طه حسين ورؤاه قد باتت في مأمن بصورة نهائية. فالهجوم علي طه حسين وتكرار محاولة مصادرة فكر عميد الأدب العربي وغيره, من رواد حركة التنوير في مصر والعالم العربي وأحفادهم من المبدعين والمفكرين المعاصرين, مشكلة لاتنفصم بأي حال عن واقع الحركة الثقافية, ولا عن التباين والتنافر مابين حركة المجتمع والمنتج الثقافي وغياب ثقافة تنويرية ولا عن حالة الانفصام بين مايطلق عليه ثقافة النخبة وثقافة الجماهير ولا عن الهوة بين مقدمي الخدمة الثقافية والجماهير ولا عن.. ولا عن.. حتي ليبدو الأمر وكأن مجتمعنا قد تحول لمجموعة من الجزر المنفصلة وأنه قد أصبح يرزح تحت عبء سيطرة ثقافات متعددة ومتنافرة. وإذا كانت تعددية الرؤي والثقافات تثري التجربة الإنسانية, إلا أنه من المؤكد أن التنافر بينها وغياب حد أدني من المسلمات المتفق عليها بين ممثلي هذه التيارات والتوجهات الثقافية كفيل بان يوجد حالة ضبابية تلف الجميع, ينتفي فيها المنطق والحيدة عند إطلاق الأحكام وتغيب فيها قدرة الفرد والجماعة علي المثابرة والسعي لاكتشاف أسباب المشكلة, الأمر الذي يقلل, إن لم يهدر تماما, احتمالات الوصول للآليات اللازمة لحل المشكلة من جذورها وبشكل نهائي. ولأن الحديث عن أي شأن من شئون حياتنا اليومية, سواء البسيط منها أو أكثرها تعقيدا, يندرج في حقيقته تحت مفهوم الثقافة, باعتبار أن أنماط التفكير والسلوك علي المستويين الجمعي والفردي تمثل المنتج والتجسيد المادي الملموس لمنظومة القيم التي تسود المجتمع, وتعكس المتغيرات التي طرأت عليه وعليها, ولأن كلمة الثقافة باتت لازمة موصولة بكل كلمة تمس أحد شئون حياتنا, بداية من كيفية الحصول علي رغيف الخبز, وتوفير فرص العمل للشباب, والحفاظ علي قطرة الماء, وصولا لقضايا الانتماء وحماية النسيج الوطني المصري والسيادة الوطنية ودرء الفتنة الطائفية, بل وحتي الانتخابات الرئاسية, لتصك أسماعنا كلمات وعبارات باتت متداولة بين الناس وفي وسائل الاعلام من قبيل ثقافة الحوار وثقافة الاختيار وثقافة العنف وثقافة المنفعة أو المصلحة.. إلخ, فتحنا في الأسبوع الماضي ملف التحديات التي تواجهها الحركة الثقافية وهموم المثقفين في مصر, حيث أجمع عدد من كبار نقادنا ومفكرينا علي أنه بالرغم من أهمية الدور الذي تلعبه الثقافة بمفهومها الكلي باعتبارها منظومة مجتمع وأسلوب تفكير وحياة, شبه غائبة وأن القضايا الثقافية, الكلي منها والجزئي, مهمشة وتفتقد التجديد. كذلك فقد أوضح البعض أن عددا كبيرا من المؤتمرات الثقافية والندوات التي تعقد لايستحق ما تم إنفاقه عليها حيث إنها تقام لتحقيق منافع شخصية ولاتصل للمواطن العادي. كما أشار البعض الي غياب الثقافة العلمية وتراجع دور النقد عن مواكبة الإبداع وغياب مشروع ثقافي قومي. ولعل من أهم ما جاء في هذا السياق ما أكدته معظم مصادرنا حول انحسار الدور الثقافي لإعلامنا, وبالتالي تفاقم الهوة بين ثقافة النخبة ومعطيات العمل الثقافي الذي تقدمه الأجهزة الرسمية وبين المعطيات الثقافية السائدة في الشارع المصري والجماعات المهمشة أو غير الرسمية. واليوم نواصل ما بدأناه في الأسبوع الماضي من رصد للمتغيرات والتحديات التي تواجهها الحركة الثقافية في مصر, علنا نستطيع عبر مجموع هذه الرؤي الفردية أن نستخلص توصيفا لواقعنا الثقافي, وربما مقترحا أوليا يرسم الخطوط العريضة لبرنامج عمل يتعامل مع الثقافة من منظور كونها أسلوب حياة وتفكير للمجتمع ككل, لا للنخبة فقط. ومن يدري ربما إذا فعلنا نستطيع أن نعيد النظر في خريطتنا الثقافية, ونخرج من أسر لعنة السير في الدوائر المغلقة التي تلاحقنا منذ أكثر من مائة وخمسين عاما وتعود بنا دائما للوراء, من حيث بدأ رفاعة الطهطاوي وعلي مبارك ومحمد عبده وقاسم أمين وطه حسين وتوفيق الحكيم ولطفي السيد ويحيي حقي وزينب فواز وملك ناصف وهدي شعراوي ونبوية موسي وأمينة السعيد وغيرهم في قائمة طويلة تحفظ اسماء رواد حركة النهضة ممن حاولوا إرساء معالم المشروع الثقافي المصري الذي لايزال حتي هذه اللحظة منقوصا, إن لم يكن مستهدفا(!!) ولا يستطيع أن يواجه تحدياتنا الآنية ولا همومنا المزمنة.