نعم لتبك كالنساء ملكا لم تحافظ عليه كالرجال بهذه العبارة الصادمة, استقبلت الأميرة الجليلة عائشة ابنها الملك أبو عبد الله الملقب بالملك الصغير آخر ملوك العرب والأندلس.. كان الملك قد فرغ لتوه من تسليم قصور الحمراء, وهي جنة من جنات الدنيا, وبها مقر الملك, والحكم, إلي الملك فرناندو والملكة إيزابيلا. وفي طريقه إلي أمه أجهش بالبكاء, وهو يسرح ببصره لآخر مرة علي ربوع وطنه الذي ترعرع فيه, وشهد مواطن عزه وسلطانه. ومرت علي ذاكرة الملك تاريخ حياته الحافل بالأخطاء الجسيمة, فتذكر أنه تولي الحكم وعمره خمس وعشرون عاما خلفا لأبيه الملك أبو الحسن الذي كانت سياساته الداخلية قد أثارت حوله كثيرا من السخط, وأشاعت جوا من الانحلال العام دب في أوصال الدولة, فنشبت الاضطرابات في غرناطة, مما اضطر الملك الشيخ أبو الحسن إلي مغادرتها. وتذكر الملك أبو عبد الله أن بعض القادة كانوا يرتزقون من ورائه, في الوقت الذي كانوا فيه يرونه قليل الحزم والخبرة, ولم يكن لديه من الحكمة والدهاء ما يؤهله للقيادة في منطقة اشتهرت بالفتن والحروب الأهلية, ووثوب سلاطين المنطقة بعضهم علي بعض بحسب ما ذكره السنيور مورينو في كتابه الهمبرا.. وقد أشيع عن الملك الصغير أنه كان يبتغي الحكم بأي وسيلة حتي أنه مكر وتحرش بوالده أبو الحسن, وغدر بعمه مولاي أبو الزغل.. والأندلس وحالها علي النحو السابق إنما كانت تساق إلي مصيرها المحتوم, ولم تكن في حاجة إلي نبوءات النبي حبقوق ليخبرنا مقدما بأن مصيرها هو السقوط المهين. في تلك الحقبة الزمنية نحو عام1500 م كان زعماء أوروبا مولعدون بالحروب, وكان كبار المفكرين يقرأون التاريخ ويستخلصون النتائج, ويستقطرون العبر, ثم يقدمونها إلي زعمائهم, ليهتدوا بها, حتي تجيء قراراتهم رشيدة متفقة مع المصالح الوطنية العليا لدولهم.. ومن أشهر مفكري ذلك الزمان, الدبلوماسي الايطالي الداهية نيقولو ميكافيللي, وكان وطنيا متحمسا, يسعي لتحقيق مصالح وطنه إيطاليا, فوضع في كتابه الخطير الأمير بعضا من أفكاره عن إدارة شئون الدولة, وهو وإن أهداه إلي الأمير لورنز من أسرة مديتشي إلا أن الملوك والقادة في أوروبا تلقفوه وتحلوا به عدا الملك أبو عبد الله والسلاطين العرب في الأندلس. يقول ميكافيللي: أيها الأمير أعلم أن الحرب للرجال كالولادة للنساء. والأمة التي تفقد الفضائل العسكرية أمة هالكة, والجيش لا يحتاج إلي الذهب بل إلي الرجال. أيها الأمير حافظ علي كيان دولتك وسلامة مجتمعك, وإياك أن تمنح الأقلية الثروة والسلطة معا, يكفيها إحداهما, وإلا استبدت بباقي الشعب ثم انقلبت عليك. أيها الأمير إن كل دولة من دول الجوار هي مشروع عدو في المستقبل فإحذر وإنتبه. أيها الأمير أحذر معاهدات الصلح الدولية, فهي أخطر من الحروب, في معاهدات الصلح تتجسد كل أنواع المكر والخديعة والغدر, وأعلم أن تدبر ومتابعة نتائج أي معاهدة أهم وأجدي من مجرد التوقيع عليها.. والتاريخ أيها الأمير يكرر نفسه, وعلي ذلك فإن الحادثة( س) حينما تتكرر تاريخيا فإنها سوف تؤدي غالبا إلي النتيجة( ص) وكان ملوك وقادة أوروبا يأخذون بنصائح المفكرين, وعلي رأسهم مكيافيللي, بينما إذا غربلت ضمائر قادة الأندلس وأولهم الملك الصغير أبو عبد الله فلن نجد سوي الجهل والوساوس والفتن. يحدثنا التاريخ أنه في ديسمبر1486 م وقعت معاهدة الصلح السعيد بين الملك فرناندو وعدوه الملك أبو عبد الله, فانقلب الأخير إلي حليف له وأداة طيعة بين يديه, ويؤكد المؤرخون أن الاسم الحقيقي لهذه المعاهدة معاهدة الصلح المسموم. وبسببها أهمل الملك أبو عبد الله شئون جيشه وراح يروج للسلام ويدعو قومه للصلح وينعي علي معارضيه مواقفهم السلبية الرافضة التي تنتهي دائما بالخسران المبين. واستغل الملك الداهية فرناندو توقيع المعاهدة, كي ينفذ برنامجه المدمر. وتحرك علي مراحل, وفقا لخطة محكمة بدأت بالقضاء علي الدويلات الصغري المفككة التي كانت تدور في فلك الملك الصغير أبو عبد الله, الذي أغمض عينيه عن ذلك, ثم أستولي فرناندو علي القواعد والثغور, كما أستولي علي الضفة والأنحاء الشرقية, وقضي علي الزعيم عبد الله الزغل أي الشجاع وهو عم الملك أبو عبد الله, ثم أستولي علي بيره والبلشن وأشكر وثغر المنكب وثغر المرية ومدينة بسطة, وقد استفرد بكل منها وارتكب فيها شنيع الاعتداء. وها هي جيوش فرناندو تتجه كالموج الزاخر إلي غرناطة نفسها وتحاصرها, وتصوب نحوها الحراقات والأنفاط التي يرمي بها صخور من نار, لتهلك من نزلت عليه وتحرقه.. وها هو الحليف الغادر, يوجه الضربة الأخيرة المميتة لغرناطة, ويطلب من أبي عبد الله التعيس التسليم!! وهكذا سقطت غرناطة وأصبحت مثل سائر قواعد الأندلس من أملاك الملك فرناندو والملكة أيزابيلا.. غادر أبو عبد الله التعيس قصر الحمراء من باب يسمي باب الطباق السبع, وطلب من سيده الجديد فرناندو سد هذا الباب بالبناء عقب خروجه, حتي لا يعبره أحد من بعده..! وخاطب الملك فرناندو قائلا: أيها الملك لقد أصبحت سيد تراثنا وديارنا وأشخاصنا.. فكن في ظفرك رحيما عادلا.. فيتسلم فرناندو مفاتيح القصر ويرد: لا تشك في وعودنا وسوف تعوض لك صداقتنا ما سلبه منك القدر!! يقول أمير الشعراء أحمد شوقي في رائعته السنية الأندلسية: مشت الحادثات في غرف الحمراء آخر العهد بالجزيرة كانت ومفاتيحها مقاليد ملك خرج القوم في كتائب صم ركبوا بالبحار نعشا مشي النعش في دار عرس بعد عراك من الزمان وضرسي باعها الوارث المضيع ببخس عن حفاظ كوكب الدفن خرس وكانت تحت آبائهم هي العرش أمس في طريقه وأسرته مغادرا إسبانيا إلي الغرب, راح التعيس أبو عبد الله يكتب رسائله, يعترف فيها بأخطائه الفادحة ويعتذر لقومه وللأجيال القادمة عن المصائب والكوارث التي سببها لهم. ونكتفي بنشر موجز لإحدي رسائل الاعتذار والتي سجلها المستشرق ميللر, يقول أبو عبد الله ماذا يقول من في وجهه خجل وفؤاده وجل, بيد أني أقول لكم ما أقوله لربي, واجترائي عليه أكثر, واحترامي إليه أكبر, لأ بريء فأعتذر لكني مستغيث مستغفر.. أنا لم أكن خائنا, لكني لا أنكر عيوبي, فأنا معدن العيوب, ولا أجحد ذنوبي, فأنا جبل الذنوب, إلي الله أشكو سقطاتي وغلطاتي, لقد ضللت إذن وما أنا من المهتدين.. ..... وهكذا ضيع الملك أبو عبد الله, ملكه وأهله ووطنه وأمته.. تاركا للأجيال التالية مجرد رسائل اعتذار ذليلة واهية.. تكشف لنا عن مأساة ضياع الأوطان علي السفهاء في العالم العربي في تلك المرحلة الزمنية, ثم يبكي الملوك علي أطلالها, يوم لا ينفع الندم!!