حشرت في صفحات من تاريخ مصر, وقائع زائفة, كان يقصد بها في كثير من الأحيان, أن يزرع في عقول المصريين أفكار وهمية, هدفها ان تجعل من الانكسار النفسي, والاحباط, حالة مزاجية مزمنة لا براء منها. وسجلت في هذه الصفحات معلومات منقوصة يكون ما تظهره أكثر مما تخفيه, هذه الصناعة للتاريخ, تناقضها وتصححها أحيانا, مراجع أجنبية عكف أصحابها علي إعادة قراءة التاريخ من خلال دراساتهم المحايدة للأحداث, أو لكونهم شهود عيان عليها حين وقعت. وعلي سبيل المثال, فقد اعتادت ألسنة وأقلام تحريف وقائع التاريخ حتي تحولت مع الزمن الي ما يضفي عليها صفة الوقائع التي لا تنكر. من بينها مقولة ان المصريين اعتادوا ان يحكمهم فرعون يستبد بهم, وهم له خاضعون مستسلمون, وان هذا طابع راسخ ومتوارث للعلاقة بين الحاكم والمحكومين. ومن بينها, كذلك وقائع التزييف للحركة الوطنية لأحمد عرابي, التي تلاعبت بها علي الألسنة: تسميتها هوجة عرابي صحيح ان مؤرخين مصريين كشفوا عن طعنات الخيانة التي أصابت عرابي, لكن حكايات التشويه والتشكيك كانت أوسع مدي وأدق تنظيما. وسأبدأ بالواقعة الثانية. الكاتب البريطاني بيترمانسفيلد, في كتابهtheBritishinEgypt بعد هزيمة عرابي عام1882 من خلال تقرير لتهدئة قضية عرابي وإنهائها, علي صفقة تقضي أن يعترف أحمد عرابي وستة من زملائه بأنهم مذنبون بتهمة التمرد. ويحكم عليهم بالاعدام. ثم يخفف الحكم الي النفي الي جزيرة سيلان لكن عرابي رفض المساومة. وقال إنه يريد الدفاع عن نفسه وعرض قضيته أمام المحكمة. ولم تقبل بريطانيا بذلك لأنها أرادت أن يظل عرابي موصوفا بأنه متمرد, وليس قائد حركة وطنية وكان الحل البسيط للمسألة المصرية في نظرها هو إعدام عرابي وزملائه. وكان ماكينزي مراسل صحيفة التايمز البريطانية الذي صحب لورد دوفرين المندوب السامي البريطاني الي القاهرة عقب هزيمة عرابي, كتب مقالا قال فيه: منذ أيام محمد علي, وربما في تاريخ أسبق من ذلك, لم تعرف مصر رجلا امتلك هذه القبضة القوية في قيادة بلاده مثل عرابي, وهو ووزراء حكومته نجحوا في إدارة شئون الحكم. وليس صحيحا ما روجه الدبلوماسيون البريطانيون, وعملاء بريطانيا من أن عرابي كان مجرد مغامر عسكري, بدون اي قاعدة شعبية. وهو الذي كانت شوارع القاهرة تردد باسمه هتاف الله ينصرك يا عرابي, الذي أطلقه الجنود, والعلماء, والفلاحون. ويقول بيتر مانسفيلد في كتابه كان عرابي صاحب مشروع إصلاحي, وقد سجله في مفكرته التي كتبها وهو في السجن قبل محاكمته بأسبوع, وشمل مشروع إقامة حكومة نيابية دستورية. لقد نفي عرابي الي سيلان التي أمضي فيها18 عاما, بعد محاكمته يوم3 ديسمبر وعندما مات عرابي عام1911 بعد عشر سنوات من عودته من المنفي كتبت صحيفة التايمز البريطانية تقول: قليل من الشخصيات تكون لها أهمية بالغة, لما تركته من أثر كبير علي التاريخ في زماننا, فهل يكون هذا هو الحكم العادل بالنسبة لعرابي؟ ولا شك في أهمية حركته التي لم تنجح. فهذه هي أول مرة يحاول فيها شعب شرقي الإطاحة بالأقلية المحتكرة للامتيازات, وإقامة حكومته التمثيلية الدستورية, في تحد للقوي الأوربية. ومهما كان ما جري لعرابي, فسوف يعيش لقرون في ضمير شعبه, الذي لن يعود مرة أخري للخضوع للبريطانيين. ان بعض الكتابات كانت ومازالت تتجني علي الحقيقة, في عرضها وتحليلها لوقائع أساسية في تاريخ مصر, حين تلمح الي نقص اهتمام المصريين بالعملية السياسية في سنوات ما قبل يوليو52, مع أن الجماهير المصرية هي التي صنعت بصورة مباشرة أبرز أحداث هذه الفترة كثورة19, وثورة المصريين في المدن والقري عام1935 للعودة الي دستور23, والتي نجحت في إرغام الدولة علي الغاء دستور اسماعيل صدقي الصادر عام1930, والذي كان قد استبدل به دستور23, فضلا عن نسبة مشاركة الناس في آخر انتخابات برلمانية قبل الثورة في يناير1952. وهي نسبة لم تتكرر من بعدها وحتي يومنا هذا. ناهيك عن ثورات المصريين المتكررة في فترات حكم المماليك, والفرنسيين, والعثمانيين. أو ما يقوله البعض في تجن علي الحقيقة من أن الديمقراطية لم تكن تراثا مصريا مع أن الحركات الوطنية منذ مصطفي كامل وعبر التاريخ اللاحق له, قد ربطت مطلب الاستقلال والتخلص من الاستعمار البريطاني, بالديمقراطية وقيام نظام نيابي دستوري. صحيح أن العملية السياسية قبل52 كانت تتصارع فيها ثلاث قوي رئيسية هي الملك, وسلطة الاحتلال الانجليزي, والاحزاب, إلا أن المشاركة والاهتمام سياسيا, واجتماعيا, وثقافيا انخرطت فيه الجماهير العادية, مما جهز البلاد والناس للالتفاف حول ثورة يوليو حين قيامها, بقيادة طليعة كانت تعبر عن حركة مجتمعية نابضة بالحيوية في مصر. (وللحديث بقية)