يشير سياق الرواية إلي أننا نعايش واقع الحياة في مصر في الأربعينات من القرن العشرين. أستاذ الفلسفة جامعة حلوان ويبدو أن الرواية تبرز للوهلة الأولي التفاوت الكبير بين القانون وموارده وإجراءات تنفيذه من جهة وواقع الفلاحين الغارق في الجهل والفقر من جهة أخري. هذا التفاوت الذي حول القانون من وسيلة تحمي الضعفاء إلي مصيبة أخري وقعت عليهم مثلها مثل الفقر و الجهل. ولكن لو خرجنا بالرواية من أسر هذا السياق بدا لنا انها تأمل عميق في شروط الوجود الإنساني بوجه عام وتحليل نقدي لقيم الإنسانية الكبري وشعاراتها وخصوصا العدالة والسياسة والجمال. فتبدوا العدالة وهما كبيرا حيث يقف أفراد عزل لا حول لهم ولا قوة أمام مصيدة شيطانية لاقبل لهم بالإفلات منها و تتكرر في عبثية مشاهد التطبيق الشكلي للقانون علي مواكب الجياع علي نحو يذكرنا بما قاله ميشيل فوكو منددا بتلك الإجراءات بأنها لا تهدف إلي منع الجريمة و إنما تهدف إلي الانتقام من المجرمين. أما السياسة فيرمز توفيق الحكيم لها في الرواية بسلطة المأمور والعمدة, أنها أبعد ما تكون عن أن تحقق ما ينفع للناس. وهدف السلطة السياسية تتنازعه في الفلسفة السياسية تيارات ثلاثة: الأول يري أن هدف الدولة هو تحقيق الأمن باستخدام القوة, فيأمن الناس علي مصالحهم وأرواحهم و ممتلكاتهم مقابل التخلي عن حريتهم و أبرز ممثلي هذا الاتجاه هو توماس هوبز, والثاني يري أن هدف الدولة هو حماية حريات الأفراد و عدم التدخل في حياتهم إلا في أضيق الحدود ويعبر عنه جون لوك, والاتجاه الأخير يري أن هدف الدولة هو تحقيق العدل و إلغاء التفاوت بين البشر وأبرز ممثليه هو كارل ماركس. و لكن الرواية تبين أن أيا من هذه الأهداف لا يتحقق فالجرائم الفظيعة تحدث لأهون الاسباب, والحرية لا سبيل إلي إدراكها أمام القهر و التسلط الذي يمارس علي الشعب من قمة الحكم إلي أصغر عمدة, أما التفاوت بين البشر فيبدو كما يري جان جاك روسو, أن كل شيء صيغ من أجل الحفاظ عليه لا من أجل إلغائه. أما الجمال الذي تمثله الصبية ريم فهو يبزغ في قلب القهر والملل والاغتراب مثل نفحة عابرة ترد الروح و لكنه يستعصي علي الامساك به وامتلاكه فهو يفلت من السلطة( المأمور) ومن القانون( النائب) ليسلم نفسه للهذيان( الشيخ عصفور). وهو ما يذكرنا برواية الموت في فينيسيا للأديب الألماني توماس مان حيث يتعقب الأديب الجميل خطي الصبي الجميل دون أن يجرؤ علي الاقتراب منه أو لمسه. ولقد جاءت الفكاهة في الكتاب لتكمل ملامح هذا المشهد المتشائم للنفس البشرية فهي تظهر الاحتيال فعندما يصيح العمدة بالفراش:' هات يا ولد قهوة بن' يكتب النائب:' علمت ان هذا اللفظ الاخير و إن دخل في تركيب الجملة, لم يدخل في تركيب القهوة'. كما تبرز الانتهازية حيث يوصي المأمور أحد العمد' البك الوكيل أكلته ضعيفة, إن كان عندك عسل نحل بشمعه لا بأس. قرصين جبنة ضاني لا مانع, طبق كعك وغريبة.....'. ويدين حين يتحدث عن' التفتيش المفاجيء' ملء الأوراق الرسمية لاتمام التمثيلية السياسية المملة: يبدو أن كلمة' المفاجأة' وضعت في اللوائح والتعليمات من قبيل التشويق كما توضع في إعلانات المسارح. المهم أن الجميع في هذا السيرك ضحايا, حتي المأمور الذي يتحدث عن براعته في تزوير الانتخابات عن طريق رمي الصناديق الحقيقية في الترعة ووضع الصناديق المرتبة لمصلحة الحكومة مكانها يلتمس لنفسه العذر بأنه لا يستطيع أن يفعل غير ذلك ويعلق النائب علي براعته في التزوير قائلا: شيء جميل! قلتها في شيء من الاستغراب وخيبة الأمل. ونشعر من بين سطور هذا النص أن هناك نوعين من الظلم: الظلم الصارخ الذي يكون فيه انتهاك صريح للأعراف و القوانين و اللوائح ولكن هناك الظلم الصامت الذي رتبنا عليه حياتنا و وضعنا من خلاله علاقاتنا ببعضنا. هذا الظلم الذي يعبر عنه توفيق الحكيم في جملة: إن كأس الاذلال تنتقل من يد الرئيس إلي المرؤوس في هذا البلد حتي تصل في النهاية إلي جوف الشعب المسكين و قد تجرعها دفعة واحدة. لم يكن هذا مجرد وصف لمصر في فترة تاريخية معينة و إنما تأملات في الوضع الوجودي للفرد و في معني المجتمع و في ظروف النوع الإنساني بوجه عام ولهذا أصبح الكتاب من عيون الأدب العالمي و يقول عنه الكاتب الفرنسي جاك لاكوتور: إنه كتاب مؤلم. ولكنها براعة توفيق الحكيم الذي جمع بين إمتاعنا بالجمال الأدبي وإيلامنا ببيان حقيقة ما نحن فيه.