التفوق كان حليف الدكتورة عائشة راتب منذ بداياتها! فكانت أول معيدة بكلية الحقوق, وأول أستاذة قانون دولي, وأول سفيرة عربية تتقلد هذا المنصب الرفيع. وحين تولت وزارة التأمينات والشئون الاجتماعية ظلت عينها علي مصالح الشعب, فعارضت قانون الانفتاح عام1974 لخشيتها من مضاعفاته علي الاقتصاد المصري, والمواطن البسيط, وحين رفعت الحكومة الأسعار وأدت لأحداث18 و19 يناير1977 لم تتردد في تقديم استقالتها من الوزارة. ومازالت تتفاعل مع الواقع الرسمي, وتتحفظ علي نقل أموال التأمينات التي تخص الأيتام والأرامل إلي البورصة للمضاربة بها, أو إلي خزينة الدولة لسد عجز الموازنة العامة, وتتساءل: إذا كان الأغنياء استغنوا عن بعض السلع الأساسية, فما حال الفقراء؟! اجتمعت لها خبرة العمل العام لسنوات طويلة, والوعي بحقيقة الأمور, مع الانحياز للبسطاء, فامتلكت رؤية واضحة, فيما يتعلق بقضايا الفقراء, ومعاناتهم المتفاقمة. فاستحقت قلادة الجمهورية, ووسام الجمهورية من الدرجة الأولي, وحازت جائزة الدولة التقديرية, لأنها عاشت عمرها المديد معنية بشئون وطنها وعموم أبنائه. كيف عارضت قانون الانفتاح الاقتصادي وأنت وزيرة في الحكومة التي أصدرته؟ لأنه غير دستوري فنحن كنا في فترة انغلاق بسبب الحرب وتم بيع القطاع العام لأشخاص ليس لهم خبرة, كان همهم المصلحة الخاصة لا العامة, فاخذوا الأراضي مقابل جنيه للمتر وباعوه بجنيه والفدان ب50 جنيها أو100 جنيه, من حق كل إنسان أن يكسب لكن من حق البلد أيضا أن يكسب, فمثلا حين أخذت شركة مصر الجديدة صحراء مصر الجديدة وعمرتها لم ينتقدها أحد لأنها من البداية أخذت الأرض بغرض التعمير وليس الزراعة مثلما يفعل البعض الآن يأخد الأرض للزراعة ثم يبني عليها فيلات وحمامات سباحة وغيرها من المنشآت, فلا يجب أن نقلب الريف المصري إلي مبان بل يجب ان نحافظ علي الزراعة فهل يعقل أن أصبحنا نستورد كل شيء؟ ما رأيك في قانون التأمينات الجديد وما مميزاته وعيوبه؟ لا أحبذ التعليق عليه.. لكن هناك شيء ما كان يجب أن يحدث وهو نقل أموال التأمينات لأنها أموال أيتام وأرامل للمضاربة بها في البورصة فهي ليست مجالا للعب, وحسبما قرأت أنها وصلت خزانة الدولة لعجز في الموازنة وهذا يجب ألا يحدث أيضا. لو كنت في موقع وزير المالية الآن ماذا كنت تفعلين؟ لا آخذ هذه الأموال, بل أفرض ضرائب علي مرتفعي الدخول أكثر من محدودي الدخل, فمن غير المعقول أن كل أفراد الشعب بتفاوت درجاتهم الوظيفية ودخلهم الشهري يسددون ضريبة بنسبة واحدة هي20% الموظف البسيط الذي لا يتجاوز راتبه بضع مئات من الجنيهات مثل رجل الأعمال الذي يحقق أرباحا بالملايين شهريا! ألا يحدث هذا في أغلب دول العالم؟ في كل دول العالم هناك ضريبة تصاعدية ولايساوي أبدا بين الغني والفقير في نسب الضريبة. التأمينات والمعاشات كانت في السابق لموظفي الحكومة دون العاملين في القطاع الخاص وغيره, ألم يكن هذا سببا في زيادة الاقبال علي الوظيفة الحكومية مثلما يقول المثل إن فاتك الميري إتمرغ في ترابه؟ في الماضي كانت فرص العمل ووزارة التأمينات كانت مخصصة للقطاعين العام والخاص, وقد كنت وزيرة لوزارتين هما الشئون الاجتماعية وحدها والتأمينات وحدها( للأعمال غير الحكومية) ولم تندمج الوزارتان, ووقتها لم يكن القطاع الخاص قد تطور, وما فعله طلعت حرب لم يفعله أحد, والوضع الآن مختلف,فعدد رجال الاعمال الذين يؤمنون علي العاملين لديهم الآن لايتجاوزون أصابع اليد الواحدة, وأنا لست ضد العمل الحر ولا الانفتاح, لكن الانفتاح سداح مداح يضاعف الطبقية بين الناس, و يجعل اللي فوق تحت والعكس فتآكلت الطبقة الوسطي ونحن لم يكن عندنا ارستقراطية, طلعت حرب صعد بعرق جبينه وكل من بعده كانوا علي نفس الحال إلا من منحهم الخديو الاقطاعيات وهي ليست أرستقراطية. لماذا ظهرت العمالة المؤقتة الآن بكثرة ولم تكن بهذا الشكل سابقا؟ عندما كنت أنا في الجامعة كان تعداد مصر17 مليون مواطن فقط, فلم تكن هناك عمالة مؤقتة لأن فرص العمل كانت متاحة للجميع تقريبا, أما الآن فنحن تعدينا ال80 مليونا فلابد أن تكون هناك عمالة مؤقتة. ماذا عن قانون الخدمة الاجتماعية الذي طبق اثناء توليك الوزارة؟ قدمته لمجلس الشعب ووافق عليه, وكان مطبقا في بعض الدول الأوروبية, وهو يعني أن خريج الجامعة المعافي من التجنيد, والخريجات بالضرورة يؤدون سنة خدمة اجتماعية مقابل الاعفاء من خدمة الجيش هذه السنة تعلم فيها الخريجون الجدد والالتزام حصلوا علي خبرة إفادتهم بعد ذلك في عملهم.. وأذكر أن وزير التربية والتعليم وقتها كان مصطفي كمال حلمي بعث بالشكر لوزارة الشئون الاجتماعية لأنه في السنة ذاتها لم يجد مدرسين لأن الخريجين كانوا يفضلون السفر إلي الدول العربية وأن الخريجون الذين طبق عليهم قانون الخدمة الاجتماعية عملوا بالتدريس وعوضوا هذا النقص. أستقلت عقب أحداث يناير1977 لرفضك زيادة الأسعار تعريفة أو قرش صاغ, فما رأيك في الارتفاع الجنوني للأسعار الآن بعشرات الجنيهات في أبسط السلع الاستهلاكية؟ إسألي الحكومة.. نحن الطبقات المستورة بدأنا نستغني عن بعض السلع الأساسية في بيوتنا فما بالنا بالفقراء. كم كان راتبك أثناء وجودك بالوزارة؟ عندما كنت وزيرة كان مرتب الوزير275 جنيها وكان يصلني235 جنيها فقط وكان الفارق يخصم مقابل الشاي والقهوة التي كانت تقدم لضيوفي. أفضل قرار اتخذته وأنت علي رأس وزارة الشئون الاجتماعية؟ المعاشات.. حيث كان أبناء الأرملة يحصلون علي معاش والدهم المتوفي, وعندما يبلغون سن26 سنة ينقطع المعاش, ولكني غيرت هذا باعادة معاش الابناء الي الأم عند بلوغهم السن القانونية عندما وجدت الطلبة يتعمدون الرسوب في كلياتهم حتي لايسقط عنهم المعاش بمجرد تخرجهم وفقا للقانون غيرت هذا إلي أن من حق الطالب الحصول علي المعاش بعد تخرجه حتي سن26 سنة إذا لم يجد وظيفة, وكذلك الإبنة إذا ما طلقت يعود لها معاش والدها مع والدتها, الزوجة التي تطلق بعد سن الأربعين لسبب ليس منها إذا مات طليقها فإنها تشارك الزوجة الجديدة في معاش زوجها.. وأتذكر عندما كنت في أحد الأندية نادتني سيدة لا أعرفها وشكرتني لأن زوجها ذا المركز المرموق طلقها بعد الأربعين وتزوج بأخري صغيرة وهذا القانون جعلها تحصل علي معاشه. كيف راودتك فكرة قانون المعاشات.. هل كان اقتراحك أم ناتجا عن مشكلات واقعية؟ وأنا في الوزارة تلقيت العديد من الشكاوي من السيدات وكثيرات كن يأتين إلي مكتبي وأسمع شكواهن, وبعد ذلك أجتمع مع وكلاء التأمينات الاجتماعية ووكلاء الشئون الاجتماعية لنضع حلا إكتواريا لهذه المشاكل, وكل الوكلاء الذين عملت معهم كانوا علي درجة كبيرة من الاحترام وحسن الاداء فلم أفعل كل ما فعلته وحدي ولكن كثيرين شاركوني فيه. هل هناك قرار ندمت عليه؟ لايوجد لأنني أفكر جيدا قبل اتخاذ أي قرار, ولم أسئ لأحد, وأهدف لرضا ربنا في كل خطوة أخطوها وكل يوم أضع فيه رأسي علي الوسادة أحاسب نفسي. ما أكثر شئ يزعجك الآن في المشهد المصري؟ عندما أشاهد برنامج واحد من الناس في التليفزيون لا أصدق عيني فعندما كنت وزيرة قطعت مصر من أقصاها لأدناها فلم أر من وصل بهم الفقر إلي هذا الحد, فمثلا شاب حصل علي شهادة عليا بتقدير جيد جدا يعمل في نزح مياه الصرف الصحي لأن ليس لديه واسطة إلي فرصة عمل, وعندما ظهر في البرنامج طلبت شركة بترول تشغيله, وغيره من الحالات التي نأسف لها و بعض الأغنياء لايهمهم الفقراء ولاينظرون اليهم ولايشعرون بهم, حقا أن بعض رجال الأعمال شرفاء ويبحثون عن مصلحة البلد مثل مصلحتهم الشخصية, لكن البعض يبحث عن مصلحته فقط, لقد أصبحت الفجوة بين من يملك ومن لايملك كبيرة جدا, والفارق كبير جدا بين من لديه واسطة ومن ليس لديه. وما موقفك من الخصخصة التي أصبحت محل جدل اجتماعي؟ لست من أنصارها, ولعلها السبب الرئيسي في ارتفاع نسبة البطالة, فليس معني الخصخصة أن يقوم اصحاب العمل بتسريح العمال بعد إعطائهم مبلغا من المال مهما كبر, فبعد إنفاقه يصبحون في الشارع بلا مال ولاوظيفة, وكان يتحتم عليهم تشغيلهم بطريقة أو بأخري. كيف ترين إصرار الشباب علي السفر إلي الخارج أو التسلل إلي أوروبا بشكل غير شرعي؟ الأحوال المحيطة بهم لاتوفر لهم الطمأنينة ولاتسرهم فيبحث عن أمانهم في الخارج وقد يلقي بنفسه إلي التهلكة من أجل حياة أفضل. ويلقون بأنفسهم إلي المجهول بعد دفع آلاف الجنيهات لمن يهربونهم بالمراكب إلي أوروبا بعدما أصبحت الظروف المحيطة طاردة, ولسنا أول دولة يحدث فيها هذا فلو تذكرنا أيرلندا حينما حدثت فيها أزمة البطاطس, مايقرب من نصف الشعب هاجر إلي الولاياتالمتحدةالأمريكية لذا نجد الشاطئ الشرقي لها كله من الأيرلنديين, والحل يمكن أن يضعه رجال الأعمال بتوفير فرص عمل لهؤلاء الشباب خاصة في زراعة الأراضي. كيف ترين ظاهرة إيداع بعض المستثمرين أموالهم في البنوك الأجنبية بالخارج؟ خطأ كبير, لأنهم تكسبوا من البلد وعليهم تعويضها خاصة من حصلوا علي أراض بسعر بخس وربحوا منها الكثير فكان عليهم أن يردوا ذلك للدولة لا أن يضعوا أموالهم في الخارج. كنت مثالا مشرفا للمرأة المصرية الناجحة وقدوة يجب أن يحتذي بها فكيف ترين حال المرأة الآن؟ المرأة حصلت علي كل حقوقها, وأكون ظالمة إذا قلت غير ذلك.. وتقلدت جميع المناصب كوزيرة وسفيرة وأستاذة جامعية وقاضية وغيرها ونجحت نجاحا باهرا. هل لك تحفظات علي المرأة المصرية الآن؟ مظهرها.. فمظهر كثير من السيدات ليس مناسبا ولا ملائما للقرن الحادي والعشرين فأصبحنا نري جميع المتناقضات في آن واحد, مابين الهزل الزائد أو التغطية الزائدة, الاعتدال في كل شئ مطلوب. تحتل المرأة17% من رؤساء البعثات الخارجية و25% في السلك الدبلوماسي, فمن خلال خبرتك كأول سفيرة مصرية وعربية تمثل مصر في كل من المانيا والدنمارك, هل استطاعت المرأة المصرية أن تنجح في التعامل مع الخبرات والثقافات المختلفة, أم أن هناك مايحتاج منها الي التزود والتعلم والفهم؟ نجحت المرأة في كل المجالات وأثبتت جدارتها, سواء في الخارج أو الداخل أو في الجامعة وغيرها, وكما قلت يتبقي أن تنتبه لمظهرها. ما هي النصيحة التي تقدمينها للأجيال القادمة في ظل الظروف الراهنة؟ خير الأمور الوسط, فنحن أمة وسطية, يجب الاعتدال في كل شئ كما يجب الابتعاد عن الشعارات, والعمل علي معالجة أوجه القصور في المجتمع المصري حتي لانعود للخلف. ما رؤيتك لمستقبل مصر؟ أملي كله في الديمقراطية, فلايوجد بلد ديمقراطي إلا وتقدم للأمام, مثل فرنسا وانجلترا, أسبانيا, وإيطاليا والدول التي خرجت من عباءة الاتحاد السوفيتي, كلها تقدمت لتطبيقها الديمقراطية وحرية الرأي وتبادل الاحترام بين الجميع, فمصلحة البلد أولا ودائما وأخيرا.