الجلوس أمام البحر في صحبة الرمال والأصداف وصوت ارتطام الأمواج وصراخ العذاري وبكاء الأطفال ونداءات الباعة, والتحديق في نقطة ضوء بعيدة, يثير في النفس رياضة التأمل التي يمارسها أولئك الذين مضي بهم قطار الزمن. الحر المشبع بالرطوبة يعطل محركات المخ عن التحليق, وعندما تأتي خلسة نسمة هواء باردة, تتفتح لها المسام لالتقاطها, قبل أن تتعقبها موجة حر وتعاقبها علي الافلات من قبضة الرطوبة اللزجة! تتدافع الذكريات عبر محطات العمر, صور واضحة, وأخري باهتة يقلبها فص المخ المعني بالاحتفاظ بالذكري, بعض هذه الذكريات مشاعل تضيء وادي النسيان, وبعضها طواها النسيان, وجوه حاضرة علي مرآة الذات ووجوه اختفت, ولاتزال فصول الرواية! لايمكن اكتشاف خبايا النفس عن بعد فلابد من المعرفة من قرب, وللاكتشاف متعته.. وألمه.. بقدر ما يبتهج الإنسان حين يكتشف ما كان غامضا عليه بقدر ما يعتصره الألم, ولكن القاعدة أن الحزن يبدأ كبيرا ويصغر مع الأيام. أكره بعض الأماكن حين ترتبط لدي بذكري سيئة, وعاجز عن موضوعية الحكم, لأن لي مشاعر. من الممكن لإنسان طيب حسن السير والسلوك وملتزم وله وظيفة وقد تحظي باحترام المجتمع, أن يتحول الي قاتل في ثانية ويبلغ عن نفسه للسلطات, حين تصفعه الزوجة علي وجهه وتطلق عليه رصاص كلماتها, لسان المرأة أحيانا مقتلها. نوعية رواد المصيف وسلوكياتهم تغيرت حين انقلب الهرم الاجتماعي, في زمن مضي كان غصن البان يحكم النساء والآن جاءت أشجار البلوط والجميز, هرب البعض الي مارينا وجاءوا الي مارينا فهاجر البعض الي بوروتو مارينا هربا من المحدثين الجدد! أري البحر يلثم الأرض بمئات القبلات في ثوان معدودات, والأرض مستسلمة تطلب المزيد, كل الدلائل الماثلة أمامي تؤكد لي أن البحر ذكر والأرض أنثي وتعالوا لتراقبوا فحولة البحر وهي تصب في الشاطئ الرملي. الأصداف التي تلمع بين الرمال, هل صحيح انها تهمس في أذن من يقربها بأسرار البحر؟ لا أظن ذلك, لعلها حكاية كنا نتناقلها ونحن أطفال لكن الحقيقة أن بعض الأشياء الغامضة تفقد سحرها اذا عرفنا أسرارها كالبحر, و... المرأة. مرت من أمامي قارئة كف وتوشوش الودع, هل أناديها من باب الفضول لتقرأ كفي؟ وعلي افتراض أنها تفهم مغزي خطوط كفي, فهل أقتنع مع أن المستقبل في علم الله؟ وهل يشتاق المرء لمعرفة كنه أيامه المقبلة؟ وهل حكام العالم علي حق حين يدفعون أموالا باهظة للعرافين والعرافات لقراءة الطالع؟ لن أنادي قارئة الكف ولا قراءة الفنجان المغاربة, سأطوي كفي علي خطوطه ودربه, يقود أيامي كما ترسمها السيناريوهات الإلهية. أنظر الي أرض مصر وأدرك كم أنا متشبث بها هذا التشبث الضاري, جاءني يوما ما عرض من رجاء النقاش للعمل المجزي في الدوحة واعتذرت عن السفر للدوحة وجاءني يوما ما عرض من عماد أديب للعمل في لندن والسفر الي هناك بأسرتي واعتذرت لعماد, ولدت في بنها وتعلمت في الصعيد وكانت حياتي العملية في القاهرة وتزوجت من أقصرية وحفيدي ولد في القاهرة وعرفني ناس مصر منذ أكثر من أربعين عاما من صحافة مصر وشاشة تليفزيونها... ولا قبر لي خارج مصر. اكتفي بالجلوس أمام البحر علي كرسي بحر ولا أنزل البحر وأبلبط في المياه, اكتفي بالسباحة في بحر الحياة والبلبطة في محيط النفس البشرية, أنا لم أتعلم العوم وأنا طفل ولهذا فرحت عندما تعلم حفيدي السباحة, أنا لا أجيد ركوب العجل وفرحت عندما رأيت ابنتي تركب العجلة بمهارة, بمراجعة للأيام, كان يجب أن أتعلم العوم فهو أجمل الرياضات ولكن خوف أمي حجب عني هذه الرياضة, فصرت اكتفي بالتأمل علي شاطئ الحياة! أستعرض أسماء أصدقاء, اقتربت منهم يوما, ثم شغلتني الحياة ولم تنقطع الجسور, وقف معي أصدقاء في لحظات محن, وأصدقاء آخرون فروا من المواقف, عرفت أصدقاء في البدايات المتواضعة, فلما فتح الله عليهم, تنكروا لصداقاتهم القديمة, عرفت أصدقاء جمعتني بهم مصالح مشتركة, فلما انفضت المصالح, انفضوا, كلمة( صداقة), كلمة كبيرة ذات معني وهي في ندرة الماس وصديقي هو.. مرآتي. صياح وقذائف من الكلام المدبب الواطي يصل الي سمعي.. ماعادت أعصاب المصريين هادئة وما عادت قلوبهم بعافية فالسكتات الدماغية والذبحات الصدرية تتربص بهم, اسباب العنف حتي علي الشاطئ تافهة وهامشية ومن الممكن احتواؤها بكلمة, لكن سلوك العنف الغليظ هو تنفيس عن ضغوط شتي, فكرت أن أقدم دراسة مرئية عن الغضب فقال لي صديق أثق في رأيه: هذه مهمة سياسي وليست مهمة إعلامي أو عالم انسانيات! لي وجه واحد يفضحني اذا استأت أو فرحت أو رغبت أو قرفت, ولهذا أفشل في السياسة ذات الوجوه السبعة والدبلوماسية هي مثلما قال عنها كيسنجر هي( فن الكذب السياسي), طافت في رأسي هذه الأفكار وأنا أفر صفحات من حياة هلاري كلينتون التي تقول إن الدبلوماسية كلمة مؤنثة( خلقت من أجلها نساء جملات لهن عقول وصوت منخفض). خلفي أسرة يبدو أنها متيسرة, فعدد الأولاد سبعة, ستة منهم يملكون سيارات ويصل الي أذني سيناريو السفر الي بعض عواصم العالم من باب السياحة, وجدتني أفكر هكذا: نخطط كثيرا ونتبني أحلاما أكثر( العبد في التفكير والرب في التدبير), علي سبيل المثال, خططنا كأسرة صغيرة السفر الي لندن, حصلنا علي التأشيرات وحجزنا الفندق, واذا بالتراب البركاني الحارق يغلق مطارات أوروبا!! استرحت لقاعدة ذهبية تقول: اترك أمرك لله بشرط ألا تتكاسل أو تتخاذل فالسيناريو الإلهي أهم من دقة التخطيط. لحظة الغروب علي الشاطئ, لحظة مثيرة, بانوراما رائعة, لوحة نادرة, أيقونة إلهية, لحظة وداع الشمس وبعد قليل يرتدي الكون عباءة سوداء يقال عنها الليل, وأنا الملم أوراقي ونظارتي الطبية والموبايل المغلق, اكتشفت حكمة الحياة في أهم ثنائياتها, كل شروق وراءه غروب, آت!