(1) أفكر الآن في أيام المحلة وأشعر بالوحشة والرضا. أنتبه أن الكثير مما حكيته هنا قد حدث وإن الكثير ايضا لم يحدث. اختلط الوهم عندك بالحقيقة وأنت تصطنع أيامك التي مضت. لكنها تبقي حياتك تلك التي يمكنك أن تحكيها. (2) هكذا يمكنك القول ان القطار ما إن غادر المحلة في طريقه إلي طنطا حتي جلست إلي جوار النافذة تلوم نفسك وأنت تتابع أعمدة التلغراف وتفكر. كيف تركت ثيابك وكتبك وأشياءك وغادرت هكذا دون أن تحمل شيئا أو تودع أحدا؟ فكرت في ذلك كله ولم تشعر بالارتياح. غادرت القطار في محطة طنطا واشتريت رغيفا وجبنا رومية واتجهت إلي ميدان الساعة. جلست بالمقهي وشربت الشاي وركبت القطار الآخر حتي المحلة ومشيت في الشوارع شبه الخالية. عدت إلي البيت وأغلقت الباب. (3) كلما حكيت للعم دهب عن رحلة المحلة وسليمان الشاعر والذئب والجدة شبه الصماء والبنات وحدائق البرتقال والآخرين حتي كان يميل إليك بوجهه الأسود المشدود وعمامته الكبيرة البيضاء ويقول: أنت لازم تروح هناك تخبره أن ذلك حدث قبل سنوات طويلة ولا أحد يعرف الآن أين هؤلاء الناس. حينئذ كان يفكر ويضيف متأثرا بصوته النحيل: خسارة ياشيخ. والعم دهب أحد كبار البوابين في قصر الدوبارة. كنت اعتدت أن تجلس إليه بعدما ينتهي العمل. للعمارة بضعة سلالم عريضة تبدأ من نهاية الرصيف وتمتد داخل الحوش الواسع ثم تصعد في اتجاهين عند المصاعد. في المساحة العالية بين هذين الجناحين توجد طاولة ثقيلة من خشب الأرو وراءها دكة داكنة يمكنك أثناء مرورك بالميدان أن تري العم دهب وهو يجلس هناك بأكمامه الواسعة. كان يجيد خمس أو ست لغات وله ولدان يستكملان تعليمهما بأوروبا ويخفض صوته وهو يميل بوجهه الممتلئ ويقول عن الأثرياء الجدد الذين حلوا محل باشاوات المنطقة القدامي انهم محدثو نعمة: أنت تعرف محدث نعمة؟ هي دي محدث نعمة. (4) بين زمن وآخر كان يستدعي أجيالا من شباب العائلة, يتدربون علي العمل في السلالم الخلفية لسنوات قبل أن ينضم أحدهم إلي العاملين في المدخل الرئيسي. وفي هذه البناية كانوا جميعا أبناء عائلة واحدة. لذلك كانوا قادرين علي ستر نشاطهم عن الجميع. وكانت رأس السنة علي الأبواب. ومعظم الأثرياء يحتفلون بهذه المناسبة خارج البلاد. حينئذ كان الطباخون والسفرجية وبعض الخدم والخادمات يختارون إحدي الشقق الخالية ويتجهون إليها حاملين ثياب السهرة الخاصة بسادتهم مع كل المشروبات التي قضوا العام في تدبيرها بصورة أو أخري. إنهم يخلعون الجلابيب البيضاء ويرتدي كل منهم ثياب سيده أو سيدته ويقضون سهرتهم يأكلون ويشربون ويرقصون ويغنون حتي الصباح ويبدلون ثيابهم ويعيدون كل شيء إلي مكانه ويتسللون من أبواب المطابخ الخلفية إلي السلالم الحديدية وينصرفون. كانوا يثقون بك وكنت تلبي دعوتهم لقضاء وقت من السهرة حيث تجلس في أحد الأركان بينما تتقدم منك إحدي الخادمات في فستان سيدتها بصدره العاري تضع لك صحنا ممتلئا بالطعام علي الطاولة الصغيرة المجاورة, لم يكن الأمر هزلا. لقد كان طقسا بالغ الجدية يتداولونه فيما بينهم تجلس وتراهم في الضوء الشحيح والموسيقي الهادئة وهم يقفون أو يتجمعون علي المقاعد الكبيرة يشربون ويدخنون ويتحدثون مثلما يفعل أسيادهم بالضبط. كان سعيد ألمونيا يستقبلك وهو ينحني نصف انحناءة بقامته الممتلئة السمراء في بدلة رجل الأعمال الذي يعمل لديه. كان يفعل ذلك ويتقدمك مفسحا لك الطريق إلي أحد المقاعد بينما الكأس في يده والسيجار الغليظ في جانب فمه المنفرج. كان يقف أمامك يمد أصابعه إلي رقبته يضبط البابيونة السوداء وهو يتطلع إلي عينيك مرحبا: أهلا أهلا عبدالله باشا. ويصب لك كأسا ثم يبتعد متمايلا وسط الزحمة ليعاود الجلوس. يتراجع إلي ظهر مقعده ويضع ساقا علي ساق. وكانت الشغالات يتمايلن في فساتين السهرة بصدورها العارية والحلي في رقابهن وأيديهن, كانت الواحدة تشد الشال علي وسطها وترقص ترافقها الأكف بالإيقاع. إذا جاءت عيناك في عين إحداهن وابتسمت فإنها لا تستجيب أبدا وتعبر عيناك في جدية أو استنكار. وللكلام, غالبا, بقية المزيد من مقالات إبراهيم اصلان