هذه مدينة لابد أن تصل إليها في الصباح الباكر حتي لا تضيع عليك فرصة التوقف عند جمالها الذي يعلن عن نفسه صراحة بلا غش أو مواربة. فهنا غشقر مدينة التاريخ التي لم أتصور يوما أن تطأها قدمي لولا هذه الرحلة التاريخية لمنظمة المؤتمر الإسلامي التي سميت برحلة فتح الأبواب وتعميق الثقة بين الصين والعالم الإسلامي, وكنت الصحفية العربية الوحيدة التي تصحبها. وغشقر التي أراها ليست مجرد مكان يمكن أن يبوح بسره وسط هذه الجبال العالية التي مازالت محتفظة بقممها الجليدية حتي في أكثر الاشهر حرارة, في غرب الصين يقولون ان غشقر هي مدينة المساجد الأثرية ومدينة الأدباء التي تتاخم دولا لها رصيدها الأدبي والثقافي الخاص. فعلي بعد أميال تقع الهند وباكستان وبعض دول اسيا الوسطي المسلمة والتبت ومنغوليا وهو ما يعني رصيدا اسيويا وإسلاميا خاصا, فهي نقطة التقاء لأدباء وكتاب أشاعوا مناخا فكريا وإبداعيا لم تشهد الحضارة الإسلامية له مثيلا في القرنين الحادي عشر والثاني عشر الميلاديين. وأما عن السبب فهو يعود إلي ما وهبه الله سبحانه وتعالي لها من مقدرات جغرافية خاصة. فهذه المدينة يسكنها أغلبية من الإيجور المسلمين يتحدثون اللغة التركية إلي جانب الصينية وهي أول طريق الحرير الذي كان أهم شريان للثقافة العربية والإسلامية في تاريخ آسيا بعد دخول الإسلام. وهذا الطريق كان ينقل فكر أهل الصين وبضاعتهم وأمتعتهم من وإلي مصر وتحديدا إلي الفسطاط أول عاصمة بعد الفتح الإسلامي, فإذا كان الخليفة عثمان بن عفان قد نجح في الوصول إلي الصين عندما أرسل برسالة إليهم مع رسول تدعوهم إلي الدين الحنيف فإن غشقر تحكي مفردات أخري للقصة فقد استطاع الإسلام ان يصل إلي هنا من خلال طرق التجارة التي حملت فكر ورؤية التوحيد التي تلقاها أهل غشقر بخير تحية عندما دخلوا في الإسلام واضافوا إليه برصيدهم الفكري والأدبي الذي أثري الدولة العباسية في بغداد. فكثيرون لايعرفون أن هناك رافدا جاء من هذه الاراضي اخترق أراضي آسيا ليتأثر بمصر وبغيرها من دول الثقافة العربية وأن هذا لم يعن بأي حال من الاحوال ترك واسقاط أي ثقافات وفلسفات قديمة كانت تعيش في هذه المنطقة. وأما أهم مكان يمكن أن تزوره في غشقر فهو مراقد الادباء الذين كتبوا تاريخا خاصا لها. وهذه المراقد ليست صاحبة صورة تقليدية فهي غالبا ما تضمها البيوت التي عاش فيها هؤلاء, وغالبا ايضا ما تحوطها الحدائق اليانعة والأسوار والقباب المطلية باللونين الازرق والأبيض, وان لم يغلب هذا وجود اللون الأخضر لون الطبيعة الذي يتحدي الجميع. وان كانت هذه الصورة الجميلة لا تعني أنك يمكن أن تزور هذه الأماكن دون أن تتكبد عناء الصعود علي السلالم المعلقة في الجبال التي تجعلك تشعر عند انتهائها أنك أقرب للسماء منك للدنيا, كما هو الحال في بيت محمود غشقري الذي يضم مكانا لتلاوة القرآن الكريم بالاضافة إلي كتبه. ومحمود بن حسين غشقري هودرة تاج الادب في غشقر. وقد ولد في عام1008 بمدينة أوبال التي تبعد ثمانية وأربعين كيلومترا من غشقر, وأصبح بعدها من أهم الكتاب والباحثين اللغويين الايجوريين وان كانت رحلته في الحياة لم تكن سهلة إلا أنها كانت ثرية. فقد أرغم في عام1058 علي ترك غشقر نتيجة ثورة في القصر اضطر علي أثرها أن يذهب إلي بغداد عاصمة الخلافة الإسلامية وفي عام1072 كان قد بدأ أهم أعماله وهو ديوان لغات الترك الذي ضم كل اللغات والكلمات واللهجات التركية بعد جولة قام بها بين القبائل التركية لينتهي منه عام1076 ويقدمه للخليفة القائم بالله العباسي ويعود مرة أخري إلي مسقط رأسه ويبني مدرسة ليعلم فيها ابناء غشقر حتي وافته المنية عن97 عاما ويعد معجمه أهم معجم يكتب ترجمة وتوضيحا لمعني الكلمات التركية باللغة العربية, وهو يعد عملا موسوعيا يتحدث عن الشعر والادب والعمارة والطب والسياسة والشئون العسكرية حتي الطعام كما يضم قصائد وحكايات شعبية وعندما أعيد طبع هذا المعجم العملاق في عام1914 نال الكثير من الاهتمام في جميع أنحاء العالم. أما يوسف حاجب فهو أديب آخر له حظوة عند أهل غشقر وولد عام1019 بلاساهون وفي سن الرابعة من عمره بدأ رحلة التعليم واستمر ولاؤه للعلم وحبه للادب. إلا أنه لم يقدم عملا أدبيا ملفتا إلا عند بلوغه الخمسين فقدم هدية شعرية للملك طبوغاس لها طراز غشقري وهو كتاب يضم مجموعة من القصائد التي تشرح للحاكم كيف يحكم شعبه, فهو وكما قال نصائح للملوك وعندما رحل عن الحياة في عام1085 كان هذا الكتاب خير من يرثيه..