بحصاد ابداعي غزير, يشارف ثلاثين عملا روائيا ومجموعة قصصية, يشق فؤاد قنديل خطا مميزا في خارطة السرد العربي في مصر, مرتكزا علي وعي غائر في صميم الواقع, وخيال مجنح فيما وراءه, ضمير يقظ لاسئلته ومشكلاته. وها هو يقدم في العقد السابع من عمره تجربة متفردة لرواية سيرته الذاتية, موظفا لها جماع طاقاته الفنية والفكرية. ومنذ ان قرأت الجزء الاول منها بعنوان المفتون وانا انتظر الاجزاء التالية بتشوق واهتمام, لانه نجح في مزج الشخصي بالعام, والجمالي بالسياسي, والروح المصرية بالرؤية الانسانية. وكنت لا اريد ان اتعجل محاسبته علي افتتان الشباب غير المشروط بالزعيم الملهم, واستثارة حسه النقدي تجاه الماضي حتي تكتمل رؤيته لتجربة جيله. وبالفعل جاء الجزء الثاني مفعما بخبرات انضج في السياسة والفن, والولع بالجمال والاقتدار علي تمثيله, جاء بعنوان مثير نساء وألغام ليوازن مثالية الجزء الاول, ويشهد علي مرارة ثماره, ويعتصر طرفا من محنة الانسان المصري في مقامه وغربته, في اشواقه للحرية وسذاجته في البحث عنها. شعرية المزاج يستهل فؤاد قنديل حكاية المرحلة الثانية من سيرتة المكثفة بشرط مصور, يختلط فيه رؤي الماضي بكوابيس الحاضر, وتتطابق تجربة الوقوع من فوق سطح المنزل عبثا في صباه الباكر بتجربة اصطدام سيارة مسرعة به خلال مطاردة شرطة امن الدولة للقبض عليه خلال احداث سبتمبر الثمانيني, بينما تنهمر علي ذاكرته مشاهد متقطعة مما سيملأ صفحات هذا الجزء الثاني من غوايات النساء وكيد السياسة وعجائب الاسفار, بما يضع القاريء امام دهشة ادب غرائبي منتزع من صميم الحياة, كما يختمه بأبيات مثيرة من انغام صلاح جاهين السبتمبرية يقول فيها: خللي المكنجي يرجع المشهد, عايز اشوف نفسي زمان وانا شب/ داخل في رهط الثورة متمرد/ ومش عاجبني ملك ولا اب/ عايز اشوف من تاني واتذكر/ ليه ضربة من ضرباتي صابت/ وضربة من ضرباتي خابت/ وضربة وقفت الشريط في وضع ثابت وكان قد حكي في البداية قصة لقائه في مطلع شبابه بشاعر مصر الكبير, وكيف عرض عليه قصائده بالفصحي والعامية وسأله الرأي فيها, فاكتفي صلاح جاهين بان اخرج من درج مكتبه ثلاث ورقات تحوي شعر واحد من ابناء جيله هو عبد الرحمن الابنودي, وطلب منه ان يحكم بنفسه علي كتابته, فانصرف بعد ان عزم علي هجر الشعر لكنه لم يلبث ان اذاب نور طاقته الشعرية في سردياته, المفعمة بنبض الحياة وايقاع الفن ووهج الضمير الوطني, وظل صلاح جاهين مثله النادر في الابداع والجمال والانسانية من هنا ندرك كيف تتضمخ صور فؤاد السردية بعطر الشعر وتتألق بافتتانه, حتي وهو يحكي معاناته مع كل المصريين خلال العمل في السبعينيات في ليبيا. ومع انه كان محظوظا في ادوار البطولة المهنية التي يقوم بها كمحاسب ومدير في الشركات الليبية, غير ان تقلب الاوضاع, وتناقض المواقف كان السمة الغالبة في سلوك الطبيعة والبشر معا, فالجبل الوديع يدهمهم بسيولة الطوفانية, وقنديل يدير الموقف في معسكر الشركة بمهارة فائقة, فيمتطي البلدوزر الصغير ليهدم به السور حتي تنفرج المياه علي الرغم من خوف السائقين المحترفين. سلطة الجمال والحكم لم تتسع سنوات ليبيا الاربع, ولا تقاليدها العربية, لتجارب الكاتب العاطفية, سوي مغامرة واحدة مع بنت مهندس فرنسي يرافقه في العمل شبت بينهما علاقة ساخنة وتبين له ان الاب علي علم بها ويباركها, ولكنه رفض تحويلها الي زواج رسمي مكتفيا بالصداقة, متعللا بالفوارق الفاصلة, ولست ادري من اين جاء فؤاد قنديل بهؤلاء الاسماء الغربيين لان النموذج يتكرر معه في ايطاليا بشكل افدح, حيث يتلذذ الاب بتصوير ابنته وهي تعانق وتقبل بطلنا المغوار ومبلغ ظني ان رجال البحر الابيض المتوسط شماله وجنوبه لديهم حمية تمنعهم من ذلك, لكن رحلة ايطاليا وهي تستغرق اجزاء من الرواية تعطي للكاتب فرصة للتعبير عن ولعه بالجمال وعشقه للفن واستغراقه في مغامرات يبدو ان الخيال يلعب فيها دورا نشطا, مما قد يخرج بالسيرة الذاتية عن ميثاق التاريخ الحقيقي للمؤلف, اذ تستهويه فتاة ليل فاتنة وتستضيفه في بيتها ليتضح له انها عميلة يهودية, وتغرم به ارملة طروب يسحرها برقية تشفي امهامن الالام فتدعوه الي وليمة باذخة, حيث يجد نفسه متورطا وسط عصابة مافيا خطيرة مما نراه في الافلام, وتعشقه الصبية التي يستعين بأبيها في شراء سيارة فتتعلق برقبته. ويبدو ان الايام المعدودة التي قضاها الكاتب في ايطاليا واتاحت له فرصة معرفة بعض كلماتها جعلته يتوهم الحياة هناك سلسلة من مغامرات العشق والمافيا تجعل حياة الرجال والنساء محوطة بالالغام المتفجرة كل لحظة لكن يبقي هناك امران هامان اود ان اخصهما بالذكر في هذه السيرة الجميلة: اولهما: ما يكشف الكاتب طرفا يسيرا منه في العلاقة الحميمة بين احداث حياته ووقائع قصصه ورواياته, فقد حكي مثلا قصة خطيبته الاولي هند وامها التي احبطت مشروع زواجه والتي صورها في قصته أمنا الغولة التي حازت علي جائزته الاولي من نادي القصة. وثانيهما: حكاية ضابط امن الدولة هشام جمعة الذي رعي قنديل موهبته الشعرية فظل يدين له بالفضل وحاول حمايته من بطش السلطة ايام السادات اثر كتابته لخطاب ساذج يتوهم انه سيجعل الرئيس يقول عن سياسته في تأبيد سلطته والتبعية لامريكا والانفتاح العشوائي وضرب الشيوعيين بالاخوان, واهم من الرسالة ما صرح له به الضابط الشاب عن طبيعة الدولة الامنية في عهد عبد الناصر والسادات معا, هنا يحق للمفتون ان يستيقظ من غفوته المثالية الحالمة, وان يدرك وهو يكتوي بجمر النظام السلطوي ان يعزز ايمانه بالحرية, فهي قرين الجمال والابداع في وجدان ومستقبل المصريين. المزيد من مقالات د. صلاح فضل