منذ شهر أبريل الماضي ونحن نتابع التطورات التي تحدث في خليج المكسيك, وملخصها أن شركة بترول عالمية كبري تملك آبارا لاستخراج البترول من مياه هذا الخليج, حدث خلل في أحدي آبارها العميقة. مما أدي الي خروج البترول المستخرج من قناته الصناعية التي توصله بالسفن الناقلة له الي محطات التكرير.فتدفق الخام المستخرج الي مياه الخليج بغزارة أدت الي وقوع كارثة بيئية واقتصادية غير مسبوقة في هذا الخليج الذي تتشارك في حدوده كل من الولاياتالمتحدةالأمريكيةوالمكسيك وعدد آخر من بلدان أمريكا الوسطي, ولكن وبسبب توجه الرياح وحركة الأمواج كانت سواحل الولاياتالمتحدة في ولايات ألاباما والمسيسبي ولويزيانا وفلوريدا أكثر المناطق والولايات تضررا. توقفت حركة الصيد تماما, وتراجعت حركة النقل الملاحي والسياحة, وتم القضاء علي سلالات وسلالات من الأسماك والطيور البحرية التي كانت تشكل جانبا رائعا من طبيعة هذا الموقع الجغرافي, في البداية قللت الشركة من تقديرها للخلل حتي غطي الخام مياه الخليج الذي بات غير صالح للأنشطة الإنسانية والاقتصادية التي تمارس فيه, وبعد فوات الأوان اعترفت الشركة بحقيقة حجم الخام المتدفق, فقد تدفق الي الآن أكثر من مليون وتسعمائة ألف برميل خام, فباتت الكارثة كارثتين بعد أن اتضح كم الوقت وحجم الأموال التي تحتاجها عملية اعادة خليج المكسيك الي حالته السابقة كمصدر للغذاء وكهدف للملاحة وللسياحة وللمتعة. والشركة هي شركة بريتش بتروليم المعروفة بBP وهما الحرفان الأولانBritishPetroleum وهي من كبري شركات الاستخراج والتكرير, والتي تملك امتيازات وعقود عمل في كل أركان المعمورة والتي تملك في ذات الوقت أعلي التقنيات الخاصة بصناعة البترول, وبجانب العقود والتقنية تملك رأسمالا وأصول انتاج وسيولة قد تفوق ماتملكه القارة السوداء كلها, ومع ذلك فشلت الي الآن في وقف عملية التسرب اليومية, مما حول المشكلة من مشكلة بين الحكومة الفيدرالية الأمريكية وبين مجلس ادارة الشركة ورئيسه لتدخل المشكلة في حوارات دارت خصيصا بين الرئيس باراك أوباما في البيت الأبيض وبين رئيس الوزراء ديفيد كاميرون في10 داونينج ستريت. والأكثر من ذلك فقد أدت الكارثة الي ان يطالب باراك أوباما الشركة ليس فقط بتحمل تكلفة اعادة الخليج الي حالته التي كان عليها قبل ان يتسرب الخام الي مياهه, وانما طالبها في نفس الوقت بتشكيل صندوق تعويضات مستقل لمصلحة كل المواطنين الأمريكيين المتضررين من الكارثة بدءا من الصيادين الي أصحاب المنشآت السياحية الي أصحاب المعاشات, وقد شدت هذه الشريحة الأخيرة من المواطنين, أصحاب المعاشات, الانتباه فالسؤال كان: مادخل أصحاب المعاشات بشركة بريتش بتروليم؟ فالمعروف ان مثل هذه الشركات الكبيرة تؤمن علي العاملين فيها لدي شركات تأمين؟ فلماذا تذكر هذه الشريحة كشريحة مستحقة لحقول من الصندوق الذي يطالب به الرئيس الأمريكي؟ فيتضح من تفاصيل وتداعيات حجم الكارثة أنها بالفعل لاتمس صناعة البترول فحسب, ولا الخراب البيئي الذي سببته ولاتزال تسببه, وإنما وهو شئ خطير تمس الحياة اليومية لأعداد واعداد من المواطنين الأمريكيين والبريطانيين, وربما من خارج الجنسيتين, المعرضين الي ان يتحولوا جميعا الي مهمشين اقتصاديا بعد فقدانهم لكل دخولهم نتيجة للخسارة المالية للشركة ولتراجع قيمة أسهمها في البورصات العالمية. فقد اتضح أن39% من أسهم شركة بريتش بتروليم مملوكة لمواطنين أمريكيين, وأن نسبة عالية من هؤلاء المواطنين من قدامي المهنيين والعمال الذين كانوا يعملون في قطاعات اقتصادية متنوعة أخري, كانت قطاعات عملهم تلك تؤمن عليهم في شركات خاصة, وكانت شركات التأمين الخاصة هذه تخير المنتفع البالغ لسن التقاعد بين الخضوع لنظام الأقساط الشهرية أو بين الحصول علي استحقاقات الدفعة الواحدة. فالواضح أنه بناء علي الاختيارات الفردية كانت نسبة كبيرة من هؤلاء المنتفعين البالغين لسن التقاعد يفضلون الحصول علي استحقاق الدفعة الواحدة ليتوجهوا بها واستثمارها في شركات كبري كشركة بريتش بتروليم, التي كانت توفر لهم فوائد سنوية لأسهمهم تعينهم علي استمرار الحياة. بعد أن وقعت الشركة العملاقة في أزمة تقنية ومالية كبري بدأ صغار المساهمين في كل من الولاياتالمتحدة والمملكة المتحدة, وهم في البلدين كثر, يتنبهون الي حجم الكارثة التي تنتظرهم, كما بدأ الرئيس أوباما محاولة إيجاد مخرج آمن لهم بأن طلب رسميا من مجلس ادارة الشركة إقامة صندوق التعويضات المذكور وإدراج أصحاب المعاشات كشريحة صاحبة مصالح حقيقية كتعويض من قيمة أمواله, وربما يطالب ديفيد كاميرون بذات الشيء, فالأزمة المالية التي يتعرض لها البلدان, وبلدان أخري, لم تعد تتحمل أزمات أخري أصغر, توسع من تلك الأزمة الكبري وتزويدها تعقيدا. وهنا نأتي الي مربط الفرس في هذا المقال, ونطرح سؤالا, هل تترك الدولة مواطنيها في مهب ريح شركات التأمين الخاصة ونظمها غير الضامنة لحياة مستقرة يحتاجونها بشدة بعد بلوغ هؤلاء المواطنين سن التقاعد؟ أم ان الدولة لابد أن تمارس مسئولياتها تجاه مواطنيها في كل مراحل وسنوات عمرهم بحيث تجنبهم عناء مواجهة مثل هذه الصدمات المدمرة أو حتي امكانية وقوعها حتي من مثل هذه الشركات العملاقة المضمونة ذات الخبرات الواسعة في تخصصها. أعرف ان فكرة الاعتماد الكلي علي نظم التأمين الخاصة ليست مطروحة الآن في مصر, ولكن ماحدث في خليج المكسيك وما أحدثه من آثار سلبية علي حياة نسبة عالية من المساهمين في الشركة يجعلنا ننبه دائما الي الدولة, أي دولة ان لم تفرض حمايتها علي مدخرات ومعاشات مواطنيها فإن حياة هؤلاء المواطنين دائما ماتتعرض لهزات قد تفقدهم الكثير من سبل الحياة المعقولة, خاصة عندما يكونون في سنوات عمر لاتساعدهم علي العمل والانتاج. انه درس نأخذه من خليج يبعد عنا كثيرا ولكنه يعلمنا ان الدولة حتي في الليبراليات الاقتصادية الكاملة لابد أن تقول اللا في أحيان أو النعم في أحيان أخري, والأفضل ان تقول اللا قبل وقوع الأزمات أفضل كثيرا. المزيد من مقالات أمينة شفيق