إنها لم تكن أزمة اقتصادية فحسب, بل كانت كارثة إنسانية فاجعة واجهتها الأمة الاسلامية في السنة الثامنة عشرة من الهجرة, إبان الخلافة العمرية الراشدة, إنها كارثة( الرمادة) التي يوحي اسمها بكل معاني القحط والجدب والجفاف التي أصابت الزرع والضرع. وبدت آثار المجاعة علي وجوه الناس حتي اكتست بلون الرماد الكالح الكئيب!! فماذا يفعل البشر الذين عضهم الجوع بأنيابه إلا أن يأووا إلي عاصمة الخلافة هربا من جوع الموت أو موت الجوع, ينشدون عند الخليفة العادل عمر بن الخطاب. النجاة والحياة؟ وماذا يفعل عمر رضي الله عنه إلا أن يستجلب بالحزم والرحمة معا ما في أرجاء الخلافة وأطرافها من فضول الأموال وفوائض الأقوات, ثم يحملها علي ظهره مع من يحملون, ثم يقسمها بيديه مع من يقسمون, دون أن ينال من ذلك إلا مايناله الواحد منهم بلا مزيد, ودون أن يدخر في ذلك جهدا حتي تنقشع الغمة, وتنجلي الأزمة؟ فقل لي بربك.. بماذا يمكن أن يفسر هذا المشهد التاريخي الذي لايكاد يتكرر في تاريخ البشرية الحافل بمظالم المظلومين, وأنات الجوعي, وآهات الثكلي؟ هل يمكن أن يفسر بنظريات الصراع الطبقي, وفائض القيمة, والمادية التاريخية, تلك المفاهيم التي روج لها المروجون ردحا من الزمن, ثم أصبحت أثرا بعد عين, حين برزت سوءاتها وسيئاتها لكل ذي عينين؟! هل يمكن أن يفسر هذا المشهد بمنطق اقتصاديات السوق, أو بآليات العولمة المتوحشة التي أخذت بخناق البشر إلي عالم لاقلب له, صخري العواطف, حجري المشاعر؟! إنه لايمكن أن يفسر إلا بتفسير واحد, يكمن في الشعور الجارف بإنسانية الانسان في رحاب الاسلام, الرباني المصدر, بتعاليمه ومعاييره الشرعية والخلقية الرفيعة, وحسبك به من تفسير!! بيد أن المرء حين يستحضر هذا المشهد الفريد ينبغي ألا يغيب عنه أمران جوهريان: أولهما: إنه ليس مطلوبا ولامتاحا في مواجهة أزمات الإنسان المعاصر محاكاة هذا النموذج بتفصيلاته وجزئياته, فالزمان غير الزمان, ومتغيرات العصر وآلياته تستلزم ضروبا أخري من التناول والتعامل, لكن المطلوب في المقام الأول: استلهام لب هذا الحل وقلبه, الذي يتمثل في ضرورة استنهاض روح الأخوة الانسانية الشاملة, التي وضع الاسلام مسئوليتها علي كاهل الإنسان بما هو إنسان, والتي تتجسد في إعادة نبض الحيوية وحرارة الشعور إلي منظومة القيم الاسلامية الرفيعة, المؤسسة علي صلة الكون ببارئه سبحانه, إيجادا وإمدادا, وثوابا وعقابا. ثانيهما: إنه ليس مطلوبا ولامتاحا: أن تقفل المنافذ وتغلق النوافذ أمام الجديد من النظريات الاقتصادية, والحديث من آليات إدارة الأزمات, فكل ذلك قد جعل العصر الراهن واجبا ملحا شديد التعقيد والتشابك مع علوم السياسة والاجتماع, والتكنولوجيا, والمعلوماتية, علي نحو لم يكن يخطر من قبل علي بال, بل المطلوب والمرغوب من هذا الدرس العمري: النفاذ إلي الجوهر, و المغزي الذي يقوم علي شحذ إرادة الانسان الخيرة التي هي جوهر الانسانية الحقة, المرتبطة بالخالق الحكيم, مهما تبدلت الظواهر, وتغيرت المظاهر, وتلك مهمة أولاها الاسلام أكبر العناية, وأعظم الرعاية!! وفي كل هذا تكمن القراءة المثلي, والتفسير الأقوم لهذا الدرس التاريخي النادر, لكن نفرا من الناس لايرون في حادثة الرمادة بكل ثرائها ودلالاتها سوي أمر واحد, هو أن عمر رضي الله عنه قد أسقط حد السرقة في عام الرمادة, ومن ثم فإن النصوص حتي القطعيات منها قابلة فيما يتوهمون للحذف والإلغاء عند أول منعطف, ولا حرج ولاتثريب إذن في إهدار مايحلو لهم إهداره من ثوابت الشرع, وقواطع الدين علي يدي كل عابر سبيل!! كان الأولي بهذا النفر من الناس أن يسأل نفسه, من ذا الذي يسرق في هذه الكارثة المدلهمة, وممن يسرق, وماذا يسرق, والناس لايجدون سوي علي موائد عمر رضي الله عنه مايسد الرمق ويحفظ الحياة؟ فهل كانوا يريدون من عمر أن يقطع يد من اضطرته ضراوة الجوع إلي طعام يقيم به أوده ويحفظ به حياته؟ أليس من سداد الرؤية ورشاد البصيرة أن تستلهم البشرية درس الرمادة في مواجهة أزمات الجوع والفقر التي أنشبت أظفارها في كثير من بلدان العالم حتي أصبح الناس فيها لايجدون من القوت حد الكفاف؟ أليس من سداد الرؤية ورشاد البصيرة أن تستلهم البشرية درس الرمادة في مقاومة نزعات الفردية المقيتة والأنانية المفرطة التي شطرت العالم إلي دول الشمال الباذخة الثراء, ودول الجنوب القابعة في قاع الفقر, والتي أصبحت مستودعا لنفايات صناعة الشمال, وضحية للتلوث البيئي, والاختلال الكوني؟ أليس من سداد الرؤية ورشاد البصيرة أن تستلهم البشرية من درس الرمادة منهجا رفيعا لايجعل الحضارة رهنا بالتقدم التكنولوجي وحده, ولايجعل التقدم رهنا بالرفاهية الزائفة التي توفر المزيد من المتع العابرة, ولايربط السعادة باللذة, بل يربط بين هذه المفاهيم العليا جميعا وبين القيمة و المعني, و اللب, و الجوهر, ثم بينها وبين الدين الحق الذي ارتضاه الله تعالي للإنسان وللكون جميعا؟