لا أعرف ما إذا كان هذا الشعور ينتابني وحدي أم لا في الكتابة عن المجزرة الإسرائيلية الأخيرة علي قافلة أسطول الحرية التي حاولت اختراق الحصار الإسرائيلي المفروض علي غزة ؟ إنه شعور الخجل من الكتابة لأن الكاتب لم يعد لديه من جديد يقال. قلنا عن الوحشية الإسرائيلية كل شيء ولم يعد لدينا سوي الاجترار. لكن الانصراف عن الكتابة في حدث بهذه المأساوية هو أيضا خجل من نوع آخر! يكاد مشهد ما حدث يطابق كل المشاهد السابقة سواء من حيث درجة عدوانية إسرائيل وهمجيتها أم من حيث ردود الفعل العربية والغربية. فإسرائيل تكرر اعتداءاتها ومجازرها الوحشية التي دأبت عليها وكأنها وحش لا تكف شهيته عن طلب المزيد من الدماء. هذا أمر غير مفهوم. بدت إسرائيل تحتاج إلي الدم لسبب وبدون سبب.. لضرورة ولغير ضرورة مع أنها أصلا سلطة احتلال.. لتدافع كما تزعم عن نفسها أو لتنشر الخوف والرعب في قلوب البشر في فلسطين وخارج فلسطين.. سفك الدماء لأتفه الأسباب صار سلوكا إسرائيليا مألوفا.. كان يمكن لإسرائيل معالجة أمر القافلة البحرية بوسائل أخري قهرية دون حاجة لإزهاق أرواح هؤلاء المدنيين الأبرياء. لكن ارتكاب المذابح يبدو في السنوات الأخيرة مزاجا إسرائيليا خالصا. أصبح تاريخ إسرائيل القصير جدا جدا متخما بعدد كبير من المذابح التي تكفي مذبحة واحدة منها لوصم دولة بالعار لآلاف السنين. من ينسي مذابح دير ياسين, وكفر قاسم, وكفر برعم, وبحر البقر, وقانا, وجنين, وغزة.. ولم نعد نعرف اسم المذبحة المقبلة أو مكانها لكننا نعلم أنها آتية آتية.. ما اسم هذا الجنون ؟ حين يتأمل المرء ردود الأفعال العربية والدولية يكاد يصل إلي النتيجة ذاتها. لا جديد.. مشهد السأم والتكرار والاجترار هو السائد. الجديد الوحيد هو انتفاض بعض قطاعات الرأي العام الغربي وأعداد تتزايد من المثقفين الغربيين الأحرار. في الشارع العربي بات المشهد مكررا كما لو أن مخرجا ثقيل الظل يصمم علي إعادة تصوير المشهد أكثر من مرة علي الرغم من صدق الأداء! فالإعلام العربي رفع من وتيرة الاستنفار والغضب.. والشارع العربي بدا كساحة عزاء كبيرة وتحركت مظاهرات الغضب بالطريقة ذاتها, والشعارات نفسها. الجديد الوحيد في رد الفعل الشعبي العربي كان هو الحضور الطاغي لتركيا التي استحوذت علي الهتافات وأصبحت أسماء زعمائها علي كل لسان. لكن مرة أخري هم العرب أنفسهم الباحثون في حيرة ويأس عن بطل ما يخلصهم وينقذهم من إذلال إسرائيل. يبحثون عن المنقذ في كل مكان. مرة بقدوم باراك أوباما إلي الحكم.. ومرة أخري عند شواطئ الأناضول حيث رجب طيب اردوجان.. حتي شافيز وأورتيجا تعلقت بهما مشاعر العرب.. هذا أمر مفهوم في ذاته.. لكن ما هو غير مفهوم أن العرب لم يدركوا حتي اليوم أن إرادة الشعوب وهمة الأمم هي التي تغير مسارات التاريخ. باختصار: أصبح الشعور باليتم القومي عميقا غائرا في العقل العربي الباطن فكان طبيعيا أن يبحث اليتامي عن بطل. عقدت الاجتماعات العربية ثم انفضت في مشهد هو أيضا مكرر ورتيب لم يختلف ولو في فقرة واحدة عما سبقه من اجتماعات. كان المثير الوحيد حسبما نقلت الصحف هو الجدل الذي اندلع في اجتماعات وزراء الخارجية العرب حول المصطلح الأدق الذي يجب استخدامه لوصف ما حدث.. هل كانت قافلة أسطول الحرية تكسر الحصار علي غزة, أم فقط تحاول فك هذا الحصار؟ وضاع وقت طويل في الاجتماع, مثل مئات السنين التي أهدرناها في حروب الكلام, والجدل محتدم حول الاختيار بين كسر الحصار وفك الحصار إلي أن انفرجت الأزمة باختيار مصطلح الكسر!! وفيما عدا ذلك تواصل مسلسل الاجترار من المطالبة برفع دعاوي أمام جهات التقاضي الوطنية والدولية المختصة وعلي رأسها محكمة العدل الدولية فيما يتعلق بالحصار الإسرائيلي المفروض علي قطاع غزة. وكان مثيرا للتساؤل أن لا يشمل التحرك القانوني المنصوص عليه في البند السادس من مقررات الوزراء العرب رفع الدعاوي القضائية علي إسرائيل عما ارتكبته من جرائم دولية خطيرة ومتنوعة بالمذبحة التي لم تتورع عن اقترافها في مواجهة المدنيين علي أسطول الحرية. أما علي الصعيد الدولي فالأمر أيضا لم يختلف كثيرا عن المرات السابقة التي ما رست فيها إسرائيل غيها ووحشيتها. فالمطالبة الدولية بتحقيق دولي سواء من مجلس الأمن أم من المجلس الدولي لحقوق الإنسان بدأت تواجه محاولات التفاف من جانب القوي الكبري. وبعد أن بدا الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون حازما ومبادرا في الحديث عن تحقيق دولي إذا به يتملص شيئا فشيئا من الفكرة. وكان المثير للدهشة أن قرار المجلس الدولي لحقوق الإنسان الذي طالب بإجراء تحقيق دولي لم يحظ سوي بأغلبية ضئيلة بفارق صوت واحد بحجة أن قرار مجلس الأمن يبدو كافيا!! منطق محير وعجيب لأنه إذا كان الأمر كذلك فما هي الفائدة من إنشاء المجلس الدولي لحقوق الإنسان؟ ثم ان بعض الجرائم التي ارتكبتها إسرائيل بمذبحتها علي أسطول الحرية تندرج ضمن انتهاكات القانون الدولي الإنساني وهو جزء من منظومة حقوق الإنسان! ما زال المشهد العربي لا يخلو من تناقضاته ولا يكف عن إثارة تساؤلات بلا إجابة. من التناقضات أننا عند كل عدوان إسرائيلي جديد أو خطر دولي يهدد دولنا بالتقسيم أو الغزو سرعان ما نرفع صوتنا باسم القانون الدولي ونستغيث بالقضاء الدولي مع أننا لم نقم بالحد الأدني اللازم لبذل جهد قانوني منظم وواع أو الانضمام بجدية وفاعلية إلي ركب القوي والمؤسسات الحقوقية والدولية. فالدول العربية باستثناء جيبوتي والأردن وجزر القمر لم تنضم بعد لنظام المحكمة الجنائية الدولية. يستمر هذا الموقف علي الرغم من أننا ما زلنا نؤدي بامتياز دور الضحية علي المسرح الدولي!! ففيم الخوف إذا من الانضمام لمحكمة دولية؟ بل إن التشريعات العربية ما زالت بعيدة عن تكريس مبدأ الاختصاص الجنائي العالمي الذي أخذت به تشريعات أوروبية كثيرة والذي يسمح بملاحقة مرتكبي جرائم الحرب أمام محاكم الدولة التي تأخذ بهذا المعيار بصرف النظر عن جنسية الجاني أو جنسية المجني عليه أو مكان ارتكاب الجريمة. أكثر من هذا أنه لم تقم دولة عربية واحدة بإدراج اتفاقيات جنيف التي تشكل قوام القانون الدولي الإنساني في صلب تشريعها الوطني مثلما فعلت دولة مثل فرنسا علي سبيل المثال. أما التساؤلات فهي عديدة نختار منها سؤالين أولهما متي نحسن استخدام سلاح المقاطعة الذكية دفاعا عن مصائرنا ومصالحنا؟ إنهم يفتخرون باستخدام سلاح العقوبات الذكية فلماذا لا نحاكي براجماتية الغرب ودهائه ونستخدم بدورنا سلاح المقاطعة الذكية؟ لكن نريدها مقاطعة توجع مصالح الغير بأكثر مما تستفزهم وتمارس في منهجية وصمت دون أن نصرخ ونزعق بها. السؤال الثاني هو كيف ننجح في التواصل مع الشارع الغربي الحر والشجاع والذي بفضله عرف العالم مأساة حصار غزة؟ كيف فاتنا أن نتعرف إلي امرأة نبيلة مثل راشيل كوري ناشطة السلام التي دهستها الجرافات الإسرائيلية؟ لماذا لا نتواصل مع مثقفين غربيين مثل الأديب السويدي الذي شارك في قافلة الحرية أو الكاتب البريطاني إيان يانكس الذي دعا منذ عدة أيام إلي مقاطعة إسرائيل ثقافيا وأكاديميا؟ الأسئلة لا تنتهي مثل أحزاننا تماما!! solimanabdulmonaim@hotmail المزيد من مقالات د. سليمان عبد المنعم