إنها لحظة عظيمة بالنسبة لنا... الإنترنت الذي يتكلم عربي هكذا قال وزير الاتصالات المصري يوم6 مايو الماضي بثقة مصحوبة بقدر كبير من الفخر والاعتزاز ونحن معه تماما. في أثناء تدشين أول نطاق باللغة العربية علي شبكة الانترنت يحمل اسم دوت مصر, بل إنه علي الأرجح من وجهة نظري ونظر الكثيرين ممن يدركون أهمية ان نتحدث الإنترنت باللغة العربية: إنها إحدي لحظات التغيير الضخمة في تاريخ تلك الشبكة العنكبوتية منذ اختراعها قبل40 عاما, وربما تساوي هذا الحدث في أهميته مع يوم صنع المبتكر تيم بارنز لي النص المترابط, فولد منه شبكة ل ويب بشكلها الذي نعرفه حاليا. لا أقل من ذلك في واقع الأمر. تكمن أهمية هذا الحدث العربي الجلل في أنه وبعد أربعة عقود من انطلاقة الانترنت, تخلت هيئة الICANN الأمريكية عن أحد أوجه سلطتها الحصرية في منح أسماء النطاق علي الانترنت, وقررت السماح بكتابة تلك الأسماء بمجموعة من اللغات الحية وعلي رأسها اللغة العربية بالطبع, وذلك بعد أن قاومت تلك الهيئة لسنوات طويلة ذلك الأمر الذي يندرج تحت إطار تخفيف إمساكها بأمور أسماء الانترنت, ولقد خاضت مصر في سبيل كسر هذا الاحتكار حربا شرسة علي مدار السنوات القلائل الماضية حتي أصبح هذا الحلم حقيقة واقعة في الفضاء التخيلي الرحب. لكن الأخطر والأهم في أن يتجسد هذا الحلم العظيم علي أرض الواقع العربي يظل مرهونا بما يطلق عليه المحتوي العربي ذلك المحتوي الذي يعبر عن ثقافتنا وتراثنا المهمل والذي مازال حبيس الكتب والمخطوطات والوثائق التي تتكدس في أرفف المكتبات دون أن تعرف طريقها الصحيح نحو عالم الديجيتال كي تتحول الي أنهار وبحار ومحيطات من المعرفة العربية الحية لتسكن عالم الانترنت بأمان تكنولوجي كي تنهل منها الأجيال الجديدة التي تتسكع بشكل عشوائي في طرقات ودهاليز شبكة المعلومات الدولية المحفوفة بكثير من الأخطار. من ناحية الشكل: عندما نقول المحتوي العربي لابد أن يتوارد الي ذهن كثير من الناس الحديث عن الكم من المحتوي, كعدد الكلمات والأسطر والمقالات والتقارير الاخبارية, والصور, ومقاطع الفيديو, حتي أننا قد نجد بعض الدراسات كما يقول خبير المعلومات العربي هيثم مسعود: عندما تقارن نسبة المحتوي المكتوب باللغة العربية بنسبة ماهو مكتوب باللغات الأخري وتلك النسبة تعتبر ضئيلة جدا بهذه الطريقة من المقارنة, ولكن عمليا لايوجد شح أو نقص بالمحتوي العربي بالكم, فلو ذهبت الي أحد محركات البحث لتجد ضالتك باللغة العربية لتفاجأت بحجم النتائج التي يقترحها عليك المحرك! حيث أنك ستجد حوالي440 ألف رابط إن بحثت عن كلمة كيف اشتري سيارة, وطبعا هذه النتائج تأتي من مصادر مترامية الأطراف مابين تعليقات بالمنتديات العامة كتبها افراد من طلبة المدارس أو موظفين, أو هي عبارة عن وجهات نظر لمقالات كتبت بالمدونات, ومابين مواقع متخصصة يديرها خبراء ومواقع إخبارية تناقلت نفس الخبر والموضوع مع تعديل علي حروف العنوان تهربا من مسئولية حقوق النشر. من هنا تكمن المعضلة, ربما عن قريب جدا سيتبخر حلم الانترنت تتكلم العربية لسبب بسيط أنها لا تتحدث بطلاقة, بمعني: أن أبناءنا الذي لا يعرفون طريق المعرفة الحقيقية عبر الكتب وبالطبع يجهلون ثقافتهم العربية يبحثون وسيبحثون كل يوم عن تلك المعلومة ولكنهم في النهاية وبهذا الكم العشوائي إن جاز التعبير من المحتوي العربي لا يحصلون أي فائدة إضافية الي عقولهم النيرة وربما لن يشبع ذلك رغبتهم بالمعرفة وهو الأمر الذي يجعلهم حتما يذهبون الي الطريق الأسهل, ويعودون ادراجهم الي مافيه متعة وترفيه من غرف شات ومواقع إجتماعية للأصدقاء بدلا من الغوص بأعماق هذه النتائج لساعات طويلة لتنقية النتائج وفرزها للحصول علي المعلومة النقية الواضحة. والسؤال الجوهري ماهو المحتوي العربي الالكتروني الذي نطمح إليه؟ مما لاشك فيه أننا جميعا نتفق أن هدفنا من إيجاد المحتوي العربي المنشود هو دعم مسيرة ثقافة أبنائنا وبناتنا المنهمكين بالبحث عبر الانترنت في عوالم من الإثارة والمتعة واللعب, وهو الأمر الذي ينعكس بطبيعة الحال علي نهضة أوطاننا العربية علي المستويين الفكري والعملي في حال الاعتماد علي الانترنت كمصدر للمعلومات, ومانهدف إليه في واقع الأمر ليس فقط المقالات والأفكار والبحوث بشكل أقرب مايكون للعشوائية في خضم ملايين من المقالات والمواضيع التي تتنامي بشكل مطرد علي الشبكة, خاصة أن إدخال المحتوي علي صفحات الانترنت بصفة عامة ليس مقتصرا علي المحترفين ورجال الصحافة والاعلام والخبراء, بل أن كل فرد الان يملك القدرة علي المشاركة وإيصال رسالته الي أرحب الافاق. ومن هنا لابد أن تلعب المبادرات والمشاريع الاستثمارية الآن.. الآن وليس غدا من أجل تنشئة أجيال جديدة تحمل توجهات ثقافية مختلفة, وقدرات علي التأمل والتفكيروالإبداع والابتكار بحيث تشكل هذه الأجيال قوة عاملة ذات تأثير في انتاج المعرفة. نعم نحن بحاجة الي محتوي إلكتروني يتميز بجودة عالية تناسب كل الأعمار والفئات, الي معلومات متنوعة من مصادر موثوقة بدون تكرار أو تحريف, فوضع المحتوي الحالي أقرب مايكون الي كم متكرر وعشوائي من المواد والمعلومات المدخلة بجهود ومهارات فردية من جانب أفراد تختلف مواهبهم وخبراتهم. ولدعم هذا التوجه لابد من إقامة ورش وندوات تهييء فرص الالتحام والتبادل فيما بين المجموعات العلمية بالمنطقة من أجل تقوية فعالية الانتاج الفكري في مجال المحتوي الالكتروني, ولا يمكن الاستغناء عن خلق وتعزيز التشريعات الخاصة بالملكية الثقافية خصوصا تلك المتعلقة بالمحتوي الالكتروني بالمنطقة العربية, ونشرها بالمؤسسات المحلية( جامعات, مدارس, مقاطعات, مديريات..) فضلا عن إدماج انتاج المحتوي الرقمي في المدارس والجامعات عن طريق برامج محلية خاصة تدخل علي وجه الخصوص التعليم الالكتروني. الحل ليس بعيد المنال ولا يبدو الأمر لي مستحيلا, شريطة أن نخلص النوايا ونتحمل مسئوليتنا تجاه أمتنا العربية, فلدينا جزء كبير من المبدعين والمبادرين لدعم صناعة المحتوي العربي, لكنهم بحاجة الي حزمة من برامج الشراكة القوية لتوفير الدعم اللازم والمنح للباحثين العرب المختصين في تكنولوجيا المعلومات لتأسيس بنية أساسية معلوماتية لتشجيع إبداع الشباب إزاء انتاج هذا المحتوي الالكتروني حتي لا نستمر بالبحث عن المعلومة كالبحث عن الإبرة بكومة من القش الالكتروني حتي ولو كانت الانترنت تتحدث العربية!