لا يمكن الفرار من هذا الحلم.. إذا طارد شابا.. سيدفعه دفعا إلي الرحيل.. ولن تستطيع قوة علي الأرض أن تثنيه عن قراره. هذا الكلام الذي قاله شاب هاجر من مصر منذ أربعين عاما خلال حديث أجريته معه من خمسة وعشرين عاما, قد يفيد في إدراك قوة السحر الذي يكمن في حلم الهجرة والذي يدفع الآن مئات من الشباب لأن يلقوا بأنفسهم داخل مراكب متهالكة ليبحر بهم ليلا.. ساعة أو ساعتين أو يوما أو يومين قبل أن تتسرب إليها المياه أو تطيح به الأمواج.. ليتبخر حلمهم خلال صراعهم المستميت من أجل البقاء.. بينما أجسادهم تتهاوي إلي قاع البحر.. وقد يفيد أيضا في فهم ظاهرة هجرة أطفال في ربيعهم الخامس عشر.. حيث قال لي إن حلم الهجرة نبت في أعماقه وهو صبي عندما اكتشف أن هناك عالما آخر خارج محل والده المنجد.. وشوارع أخري غير هذا الزقاق الضيق الذي يقع فيه منزله.. أدرك بفطرته أن انقطاعه عن التعليم كان بسبب فقر أسرته.. لذلك راح يبحث عن إجابة لسؤال لم يجد له ردا.. لماذا نحن فقراء؟.. عندما أصبح شابا في الثامنة من عمره التحق بالعمل بشركة ايديال كعامل خراطة.. حيويته وحماسه لفتا نظر خبير ألماني فعرض عليه السفر إلي ألمانيا للعمل في مصنع يملكه شقيقه مقابل50 قرشا في الساعة.. توقف العالم من حوله.. لم يعد يري أو يسمع شيئا سوي50 قرشا في الساعة.. لا يدري أين تقع ألمانيا.. سخر أبوه منه.. وخبطت أمه بيدها علي صدرها.. كان في حاجة إلي80 جنيها لنفقات السفر.. أسعفته الأم.. رهنت أو باعت أو استدانت.. لا يدري.. وأتت له بالفلوس.. دموعها في عينيها وهي تقول دعواتي معك يا ولدي أينما ذهبت. كان يسمع هدير أفكاره والسفينة تتوغل في الليل والمجهول.. ما الذي أتي بك إلي هنا؟.. أرحلت فقط من أجل الخمسين قرشا التي قيل لك أنك ستحصل عليها.. أم رحلت تدفعك رغبة كامنة في أعمق أعماق نفسك في أن تصنع حياة أخري غير تلك التي تعيشها.. وأن تقهر الحرمان والفقر وبؤس سنوات الطفولة؟.. وحين رست السفينة في الميناء الإيطالي لم يكن يملك سوي مخلة وابتسامة وحلم قديم كان في طريقه لتحقيقه. هكذا كان مشهد الهجرة في الماضي.. خاليا إلا نادرا من السماسرة النصابين.. والوسطاء المحتالين.. والقوارب المتهالكة.. والجثث الغارقة.. والعائدين سباحة أو ترحيلا.. لكن ظلت هناك تفاصيل لم يغيرها الزمن.. الحياة التي تتوقف لحظة بزوغ حلم الهجرة.. الأم التي تستدين أو تبيع أو ترهن.. الفقر الذي يجعل الحاضر كئيبا والمستقبل بلا معالم.. الخيال الذي يصور المستقبل الوردي علي الشاطيء الآخر.. الطموح الذي يجعل البقاء علي أرض الوطن حماقة مع وجود فرصة للارتقاء. ولأن الحياة تزداد قسوة.. فلنتأكد جميعا أن هناك في هذه اللحظة سمسارا ما يتفاوض مع مجموعة من الشباب.. في مقهي.. أو في شارع خلفي.. أو في حارة مظلمة.. وأن هناك مركبا متهالكا في انتظارهم.. ليبحر بهم.. وهم لا يعرفون مصيرهم.. هل يتحقق حلمهم.. أم يعودون بفشلهم.. أم يلقون حتفهم.. ويصبحون خبرا في صحف وطنهم! [email protected]