سؤال ساذج وعميق للغاية خرج ذات نهار قديم من كتاب صغير يحمل عنوان أساطير افريقية ليستقر في وجداني, ويطفو علي سطح الذاكرة كل فترة, السؤال هو لماذا أصبحت القرود قرودا؟. وتجيب سطور الأسطورة عن هذا السؤال بأن القرود كانت تعيش في غابة شاسعة تتخلها أنهار متعددة. وكانت أوامر القرود الكبار ثقيلة ومتعددة علي أسماع القرود الصغيرة, فضلا عن طريقة إلقاء الأوامر توحي بأنها صارمة واجبة النفاذ, فضجت القرود الصغيرة, واضمرت التمرد علي ما لا يفهمونه من تلك الأوامر, فاستولت ذات ليلة مقمرة علي موقع الأشجار الكبيرة المجوفة والتي تستخدمها القرود الكبيرة للتنقل عبر الأنهار المختلفة, ورحلت القرود الصغيرة بتلك القوارب عبر الأنهار والبحار بحثا عن غابة أخري لا يعيش فيها أحد من القرود الكبار أصحاب الأوامر الثقيلة علي الأسماع, ووصلت القرود الصغيرة إلي غابة بعيدة فيها أشجار وثمار لتؤسس مجتمعا جديدا بعيدا عن تعليمات الكبار. فنال منها التعب والإرهاق ومرور الزمن الطويل, حتي أصبحت قرودا كبيرة وصار لها أبناء صغار, وصارت تعليمات كبار القرود ثقيلة علي اسماع ابنائهم من القرود الصغيرة, وهكذا تكررت اللعبة, رحيل هارب من قرود صغيرة لأن خبرات القرود القديمة ثقيلة, وبدايات جديدة تمتليء بالحيرة والارتباك عندما يصل كل جيل صغير العمر إلي غابة جديدة, ولكل تلك الأسباب لم تتطور القرود منذ بدء الخليفة حتي كتابة هذه السطور. وألحت تلك الأسطورة علي خيالي من جديد عندما وصلتني في الاسبوع الماضي بطاقة دعوة لحضور مؤتمر عن تفاعل الثقافات الافريقية في عصر العولمة, وكعادة مثل هذه المؤتمرات لا تكون جاذبة لأفئدة وقلوب البشر الذين ينعقد المؤتمر أساسا من أجلهم بهدف اعادة ايقاظ الروابط التاريخية إلي امتدت من مصر إلي افريقيا, سواء أيام حتشبسوت التي سافرت إلي بلاد بونت, أو في بدء أيام الصراع الأموي العباسي علي الحكم, حيث رحل بعض من العرب إلي أواسط افريقيا هربا من ذلك الصراع فاستقبلهم شيوخ القابل بترحيب مشوب بعدم التقدير لأنهم يسرفون في الاقتتال, أو أيام الخديو إسماعيل عندما حاربت قواته المصرية في قلب القارة عند منابع النيل, أو أيام بدايات23 يوليو التي غزلت من البعد الافريقي قوة لا يستهان بها تمثل أولا في منظمة الوحدة الافريقية, ثم صارت كتلة ذات وزن مسموع في عالم عدم الانحياز. ولكن مياه النسيان جرت لتطمس الكثير من تلك الروابط, حتي بتنا ننظر إلي افريقيا كمجموعة من البلاد البعيدة, علي الرغم من أننا نتمني لنفس القارة, والنيل الذي نعيش علي ضفافه ينبع من هناك. وصار البعض ممن يحترقون التهويل ينظرون إلي صنابير المياه في البيوت, وكأن النيل قرر الهرب من مسئولياته عن الدولة التي أضافت كل بدايات الحضارة إلي الكون, بداية من بناء البيت إلي زراعة القمح إلي صناعة الكراسي والملابس. وصار هناك معسكر مضاد يري الاستهانة هي الأمر الذي يليق بتجارة اليأس من علاقتنا الافريقية. وكعادة الثقافة كقوة ناعمة أن تبدأ بخطوات هادئة من أجل اعادة الرؤية للواقع كما هو, ثم تبحث فيه عن حق الأمل والحلم, لذلك شاء المجلس الأعلي للثقافة أن يقتحم تلك المنطقة الشائكة بدراسة الواقع كما هو دون تهويل أو تعال أجوف فجاء هذا المؤتمر صاحب العنوان الذي يبدو ثقيلا علي الاسماع تفاعل الثقافات الافريقية في عصر العولمة, واجتمع عدد من المثقفين المهتمين بالقارة ليعيدوا دراسة تلك الروابط المصرية الافريقية, وآن لنا أن نتذكر كيف أسهمت الجهود المصرية في ايقاف مسلسل استنزاف الغرب للخيرات الافريقية, والذي عبر عنه الشاعر الافريقي إيميه سيزار كانوا يعلمون أجسادنا بالنار الحمراء ويبيعوننا كالحيوانات ويعدون أسناننا, سفاحون سفاحون, وكأن الشاعر قد رصد رحلة اصطياد مائة وخمسين مليون انسان عبر خمسة قرون ليكونوا عبيدا, وجاءت أوراق المؤتمر وجلساته كآهة عميقة تطلب اليقظة, لا للبكاء علي ما فات ولكن لإعادة تجديد الروابط التي يمكن أن تغني أبناء مصر بثراء أفكار بذرتها وزرعتها علي مر التاريخ وصولا إلي مستقبل لا يتم فيه استنزاف أطفال سيراليون علي سبيل المثال في حفر أنفاق استخراج الألماس من سيراليون وفرصة لتبادل الخبرات في محو الأمية علي طريقة أهل السنغال عندما يجمعون الصغار تحت الشجرة الوارفة في قرية ما ليعلموهم فك أسرار اللغة ومعها فنون الصناعات اليدوية, وكيفية دراسة أنماط السلوك في المجتمعات المحلية الصغيرة كما كان يفعل السيد محمد غانم مؤسس شركة النصر التي كان لها فروع في أغلب البلدان, وكان يصدر لها ما تتم صناعته في المصانع المصرية بما يناسب ذوقها, ولعل ما حدث أخيرا من استشهاد جنديين مصريين يعملان في قوة السلام بدارفور نداء كي نهتم أكثر وأكثر بالعلاقات المصرية الافريقية. إن تجديد الروابط بيننا وبين افريقيا قد أخذ بداية لائقة من القوة الناعمة وأعني بها الثقافة لنتبادل فيما بيننا الرؤي حول مستقبلنا, ويبقي أن نجمع الميراث القديم لا لنقلده, ولكن لنري من خلاله ما يمكن البناء من فوقه, بدلا من ان نترك الساحة الافريقية ملعبا للصين تارة, أو لاطلاق صرخاتنا عن التغلغل الإسرائيلي هناك. ولأني أعلم عمق قدرات عماد الدين أبوغازي كأستاذ توثيق بالأساس قبل أن يكون أمينا للمجلس الأعلي للثقافة. لذلك أتمني أن يتواصل هذا المؤتمر بجلسات استماع للخبرات الانسانية المختلفة للمثقفين الأفارقة وأن يجري التعاون بين المجلس الأعلي للثقافة ومكتبة الإسكندرية في هذا الأمر, وأن تنعقد سلسلة من حلقات النقاش بشكل مستمر لا يعرف الخمول عن تاريخنا مع افريقيا وتاريخ افريقيا معنا, وأن يكون أول المتحدثين بتلك الخبرات هو الافريقي الفيلسوف الذي يشغل منصب أمين عام حقوق الانسان في مصر, وأعني به د. بطرس بطرس غالي والذي وقفت افريقيا بجواره وخلفه إلي أن وصل إلي مقعد أمين عام الأممالمتحدة, وانتقل منه إلي نفس الوظيفة في المنظمة الفرانكوفونية الموجودة بباريس وتدعمها الحكومة الفرنسية, وأن يأتي السفراء الذين عملوا بإفريقيا ليدلوا بشهاداتهم عن أيام وجودهم في العواصم الافريقية, وفوق كل ذلك سنجد من الأسماء الافريقية من نستطيع دعوتهم كأدباء ومثقفين لنجدد إعادة ميلاد الجسور, فقد تعلقنا لسنوات بما هو قادم من الشمال, مع أن العديد من الحلول لأصعب ما نواجهه من أزمات يمكن ان يجد له حلولا ساطعة في العلاقات المصرية الإفريقية, أو ما يسميه بطرس بطرس غالي بتعاون الجنوب مع الجنوب. فليكن المؤتمر الذي انتهي منذ أيام في قاعات المجلس الأعلي للثقافة هو اعادة ميلاد مؤثر وبلا ضجيج لتبادل الخبرات والمصالح عبر جسور القوة الناعمة بين مصر وافريقيا, فقطرة المياه التي تنزل من كل صنبور قادمة من هناك, وكل ترعة صغيرة تحمل المياه لتروي فدانا من الأرض المصرية لها جذور افريقية, فهل نتذكر كل ذلك, أم هناك من يرغب في إعادة قراءة أسطورة صغار القرود كي يتذكر؟