في معرض القاهرة الدولي للكتاب وقفت في محل لبيع الأسطوانات. كنت أنتظر رجلا في منتصف الخمسينات حتي ينتهي من اختيار بعض الأغنيات. كان الرجل يعاني شيئا من الارتباك واعتذر لي عن تأخره في الاختيار, لأن لديه شعورا بالخجل. فلا يجوز لرجل مثله في هذه السن أن يقف ليختار أغنيات حتي ولو كانت تنتمي إلي ذلك الزمن الجميل كما يقولون. ويبدو انني زدته خجلا وأنا في مثل سنه حين طلبت من البائع بعض اقدم تلاوات الشيخ مصطفي إسماعيل, ولكنني سرعان ما بددت خجل الرجل حين طلبت بعض الأغنيات وتسجيلات للصور الغنائية التي اعتادت الإذاعة تقديمها في ستينيات القرن الماضي. وحين أعدت ذكر تلك الواقعة لبعض أصدقائي جاءتني حكايات كثيرة جميعها يشير إلي أن المجتمع الآن لم يعد يرحب كثيرا برجال أو سيدات فيما فوق الأربعينات من العمر يطربون للأغاني والموسيقي, فذلك لهو أصبح مسموحا به فقط للمراهقين ومن هم في طليعة سن الشباب, حيث المجتمع أكثر تسامحا معهم دون غيرهم. تذكرت أن الأغاني الآن من صنع الشباب شعرا ولحنا وغناء واستماعا. فليس علي الساحة من كبار الشعراء أو الملحنين اسم واحد. تواري الكبار عن الموسيقي والغناء ربما بأسباب تخص واقع المناخ السائد في إنتاج الاغنيات وجمهورها ولكنها ليست بعيدة أيضا عن تغير نظرة المجتمع للموسيقي وللغناء والمتعاملين معهما. في كل مرة تذاع إحدي أغنيات أم كلثوم في التليفزيون المصري وهي نادرة, أتأمل كثيرا ذلك الجمهور الذي يستمع بشغف لما تغني. لم يعد يعنيني سلوك ذلك الجمهور في الاستماع فقد أصبح ذلك ترفا. اللافت للنظر هو أن جمهور حفلات ام كلثوم كان في الغالب ممن هم في الأربعينات والخمسينات وأكثر. وجاء محمد عبدالوهاب ليضم إلي مستمعيه من هم أقل سنا من جمهور أم كلثوم. أما من كانوا في سن المراهقة والشباب فكانوا يستمعون الي عبد الحليم حافظ وفريد الأطرش وفايزة أحمد وشادية ونجاة وغيرهم. ذهب المطربون الشباب الجدد بهذا الجمهور الآن, أما من تجاوز الخمسينات فليس له من أغنيات هذا الزمان نصيب اللهم الا بعض حفلات الموسيقي العربية أو الاستماع لمحاولات بعض المطربين الشبان ترديد أغنيات تنتمي لزمن مضي. في ذلك الماضي الذي لم يبتعد كثيرا لم يجد الشاعر عبد الفتاح مصطفي غضاضة وهو رجل صوفي النزعة أن يكتب وهو في خمسينات العمر سحب رمشه ورد الباب كحيل الأهداب.. نسيت أعمل لقلبي حجاب. كحيل والكحل من بابل, وإمتي عيونا تتقابل. يا ريت نظرة وأنا أقابل ولو بعتاب. نسيم العصر علي القصة يحكي في الهوا قصة وبين البصه والبصه تدوب أحباب ولم يتوقف أحمد رامي وهو في سبعينات العمر عن البوح بالجوي المكتوم كيف أنسي ذكرياتي.. وهي في قلبي حنين. كيف أنسي ذكرياتي وهي أحلام حياتي. إنها صورة أيامي علي مرآة ذاتي. واختتم بيرم التونسي مشواره مع أم كلثوم قبيل وفاته بأغنيته الشهيرة التي يقول فيها: نظرة وكنت أحسبها كلام وتمر قوام. أتاري فيها وعود وعهود وصدود وآلام. وعود لا تصدق ولا تنصان. وعهود مع اللي مالوش أمان. وصبر علي ذلة وحرمان. وبدال ما اقول حرمت خلاص, اقول يا رب زدني كمان. القضية ليست في صلاحية مثل تلك الكلمات لهذا الزمن ولكن هل يقبل المجتمع الآن رجلا في سن بيرم أو أحمد رامي أن يكتب هكذا في الحب. لقد تعرض محمد عبد الوهاب لشئ من النقد بعد أن ادركنا التصحر لأنه كان في سبعينات عمره وغني للحب في أغنيته الأخيرة من غير ليه التحفظ مع الموسيقي والغناء بفعل السلفية الاجتماعية في بلد مثل مصر يشير إلي أن الفكر الاجتماعي يسير في الاتجاه المعاكس لحركة التاريخ المصري نفسه ليس في الموسيقي وحدها وإنما في مجالات أخري كثيرة, تذكرت قول الجاحظ: الموسيقي كانت عند الفرس أدبا وعند الروم فلسفة, أما عند العرب فقد أصبحت علما وتذكرت الكندي فيلسوف العرب يصف آلة العود بأنها آلة الفلاسفة. وتذكرت كيف انتقل مركز الحضارة والموسيقي من بغداد إلي الأندلس بعد أن سادت السلفية الدينية عاصمة الخلافة في بغداد حين تولي المتوكل حكم الدولة العباسية فحارب فكر المعتزلة وعاد إلي السلفية, فصادر مكتبة الكندي التي اعتبرت مرجعا كبيرا للمؤرخين والعلماء. وأعادتني كتابات الرحالة الأوربيين إلي روح الفن الساكن في أعماق المصريين. كل مصري فنان بطبعه. فهو إما متذوق للفن أو مبدع له. لم تخب جذوة الفن في أعماقه علي مر التاريخ. ورغم القيود التي فرضت علي الفن أوقات من تاريخه, إلا انه لم يعدم وسيلة للتعبير عما تجيش به أعماقه من فن وقدرة علي التعبير. توسل بالفن صبرا علي الظلم الذي نزل به, وجهادا في مسالك طلب الرزق, وسبيلا لعبادة الخالق والتقرب إليه. جاءته أزمات تحرم الفن فلم يستكن. سقط الإزميل من يد آخر النحاتين الفراعنة ليلتقطه الأطفال في القري يصنعون من الطين تماثيل رائعة يلهون بها. وحينما حرم عليهم الغناء والموسيقي, تغنوا بالقرآن وأبدعوا الابتهالات والتواشيح والمدائح النبوية وأحاطوا مواكب الحجيج بغناء ديني يعبر عما في النفس المصرية من الفن الذي هو هبة من الله. لا نذكر شعبا من شعوب المسلمين خدم تجويد القرآن وتلاوته مثلما فعل المصريون. ولا نعرف حتي الآن أذانا للصلاة هو أروع لحنا من أذان المصريين. إن تاريخ الفن في مصر هو تاريخ الحرية بمفهومها الاجتماعي وليس السياسي رغم الارتباط الكبير بينهما. فحينما هبت رياح الحرية علي مصر في نهايات القرن التاسع عشر انفجرت ينابيع الفن شعرا وقصصا ونحتا ورسما وغناء وموسيقي. لم تكن الحرية التي فجرت طاقات الفن عند المصريين مقصورة علي الحرية السياسية ولكنها الحرية التي جاءت تكتسح القيود الاجتماعية والأوهام الثقافية المتسترة خلف الدين. حتي إذا خبت روح الحرية الاجتماعية أعاد التاريخ فرض القيود علي عبقريات الفن المصري وإبداعاته بأوهام أعيد إنتاجها من بطون التاريخ. كنت ومازلت أتمني أن تتمتع الثقافة الاجتماعية السائدة بنصف الحرية السياسية المتاحة الآن. لم تعد المشكلة في الحرية السياسية وإنما في القيود الاجتماعية والفكرية الخانقة القاتلة لكل إبداع بشري. هناك فارق بين القيود السياسية والقيود الاجتماعية. الأولي تجرم وسائل الاعتراض, والثانية تجرم أساليب التفكير والإبداع. عواقب الخروج علي القيود السياسية محتملة. أما الخروج علي القيود الثانية فهو غير محتمل في الغالب. منذ عقود كانت الحرية السياسية اقل نطاقا مما هي الآن ولكن الحرية الاجتماعية كانت أوسع مدي. دفعنا ثمن القيود السياسية وحاولنا التخلص منها. ولكن الحرية الاجتماعية جاءتنا بما نعجز اليوم عن إنتاجه وإبداعه مع الحرية السياسية المتاحة. جففت القيود الاجتماعية ينابيع الإبداع في وجدان المصريين. لم تعد مياه الآبار كافية لري الأرض التي تصحرت وعجزت عن مقاومة سفح الريح في الوادي الأخضر. لم تعد قناديل المساء قادرة علي مغالبة الظلام الذي خيم علي الأرض من حولنا. كان الفن والإبداع في مصر أول ضحايا التصحر الذي ظل يزحف منذ عقود علي الوادي الذي لم يكن به يوما أكثر من الماء والظلال والغناء. المزيد من مقالات د. حمدي حسن أبوالعينين