لم يعتد الألمان علي رؤية مستشارتهم انجيلا ميركل وقد أحمر وجهها انفعالا وهي تلقي كلمة ما أو تتحدث أمام جمع من المستمعين, فميركل معروفة بهدوئها الذي يقترب من البرود لدرجة أن وثائق ويكيليس الأمريكية السرية وصفتها ب ميركل تيفال, أي المستشارة التي لا يلتصق بها أي نقد ولا تبدي أي مشاعر, وانما تتعامل ببراجماتية بحتة مع كل المواقف. ولكن المستشارة لم تتمكن من إخفاء استيائها وهي تتحدث امام غرفة التجارة والصناعة في شتوتجارت منذ اسابيع عن المشروعات العملاقة المتعثرة في المانيا مثل مشروع محطة قطار شتوتجارت ومشروع بناء مطار جديد للعاصمة الالمانية كان من المفترض ان يفتتح في يونيو الماضي ولكنه تأجل الآن لأجل غير مسمي. وبكلمات حادة قالت المستشارة.. ليس من المقبول بتاتا ان نكون عاجزين عن إنجاز مشروعات عملاقة في مجال النقل والمواصلات في بلدنا المانيا, أن هذا يشوه سمعتنا العالمية كشريك اقتصادي محل ثقة ويعتمد عليه دوليا. ويبدو ان ما حذرت منه المستشارة ميركل حدث بالفعل, فالإعلام الأوروبي والعالمي لا يكف عن تسليط الضوء علي فضيحة مطار برلين الدولي التي هزت ثقة الألمان في انفسهم وفي قدرتهم علي تخطيط اكبر المشروعات وتنفيذها بدقة متناهية وفي الموعد المحدد سلفا. فالعاصمة الألمانية التي تتحكم منها ميركل في اقدار دول منطقة اليورو لا تزال تفتقر لمطار دولي كبير يليق بها, وحتي اليوم تعتمد برلين علي مطاريها الصغيرين القائمين منذ فترة تقسيم المانيا, وتقسيم برلين إلي شطرين غربي وشرقي, وهما مطار تيجل في الغرب ومطار شونيفيلد في الشرق. وبعد سنوات من التخطيط بدأت كل من ولايتي برلين وبراندنبورج بالاشتراك مع الحكومة الالمانية في عام2006 في بناء مطار برلين براندنبورج الدولي ليصبح اكبر مطارات اوروبا. غير انه قبل موعد الافتتاح بثلاثة اسابيع فقط فجرت الشركة المشرفة علي المشروع مفاجأة مدوية وأعلنت أن المطار ليس جاهزا بعد, وأن هناك مشكلات كبيرة في نظام الإطفاء الآلي الذي يعد الأكبر والأكثر تعقيدا في العالم. وخلال الاشهر الماضية تم تأجيل موعد افتتاح المطار أربع مرات وتكشفت سلسلة من الأخطاء البشرية والإنشائية جعلت من المشرفين علي المشروع أضحوكة والمطار نفسه مادة للسخرية بين الألمان. فقد كشف خبير المطارات العالمي ديتر دا كوستا الذي ساهم علي مدار العقود الثلاثة الماضية في تخطيط44 مطارا دوليا عن اخطاء لم يتصور احد ان تحدث في المانيا وفي مشروع قومي كمطار العاصمة الألمانية, ابرز هذه الأخطاء ان المسافات بين جسور الركاب التي تتوقف عندها الطائرت وتلتصق بها لإنزال الركاب, هي مسافات ثابتة ولم يتم مراعاة اختلاف احجام الطائرات عند تصميمها, مما يعني انه إذا هبطت طائرات ركاب عملاقة من طراز بوينج747 او إيرباص جامبو فأنها ستسد الطريق امام الجسرين المجاورين يمينا ويسارا وتمنع استغلالهما في استقبال طائرات أخري! فضلا عن ان عدد الكاونترات داخل المطار لإنهاء إجراءات المسافرين وكذلك عدد السيور التي يتم إنزال الحقائب عليها قليل ولا يتناسب مع نحو66 الف مسافر يوميا يرغب المطار في استيعابهم. وفوجئ الألمان بأن مطارا بهذا الحجم لا يضم مستشفي او عيادة طبية صغيرة لمعالجة المرضي وانه بدلا من ذلك سيتم استدعاء الأطباء من المناطق المجاورة في حالات الطوارئ! هذا غير مشكلات لا تحصي في انظمة غلق الأبواب والإنذار وفي تهوية غرف التحكم المركزية وحالات فساد يتم التحقيق فيها مع بعض الشركات التي قامت بتركيب شبكات المياه والصرف الصحي, وارضيات الصالات المشوهة بعد ان سارت عليها عربات النقل الثقيلة بدون حماية.. وقد دفع ذلك كله دا كوستا لاقتراح هدم المطار وبنائه من جديد! الاقتراح بالطبع أثار ليس فقط سكان برلين الذين يسددون باموال الضرائب فاتورة إنشاء المطار والتي تضاعفت الآن من نحو ملياري يورو إلي اكثر من اربعة مليارات يورو, ولكنه اثار ايضا سكان الولايات الألمانية الغنية في الجنوب مثل بافاريا وبادن فورتمبورج وهيسن التي تجبر علي سداد المليارات سنويا لدعم ولاية برلين الفقيرة والتي لا موارد لها. واخيرا زاد الطين بلة ان أصدرت محكمة برلين الإدارية العليا قرارا بإلغاء خط الطيران الرئيسي للمطار الجديد بإعتبار أنه يمر فوق مفاعل نووي للأبحاث ما يمثل خطرا علي المفاعل في حالة سقوط طائرة او وقوع اعتداء إرهابي! ورغم إقالة مدير المشروع الذي اكتشف الألمان انه لم يكن متواجدا بصفة مستمرة في الموقع, وكذلك استجواب عمدة برلين والمطالبة باستقالته وتعهد رئيس وزراء براندنبورج بانه سيستقيل إذا لم يتم الانتهاء من المطار بنجاح, لا يزال الغموض يحيط بالمشروع وبإمكانية إنقاذه من الأساس وبموعد افتتاحه خلال عامين او ثلاثة او ربما اكثر؟ فحتي الآن لا يزال البحث جاريا عن شخصية ذات كفاءة تديره بعد اعتذار العديد من الخبراء الألمان عن هذه المهمة. والآن بعد ان قررت كبري شركات الطيران الألمانية, لوفتهانزا وايربرلين استثمار مبلغ50 مليون يورو في تطوير مطار تيجل القديم بدلا من إغلاقه, يزداد يقين الألمان بأن مشروع مطار برلين براندنبورج هو احد اكبر فضائح الإنشاء والبناء وإهدار المال العام في بلادهم. ويتعامل الألمان عادة مع تجاربهم الفاشلة بالكثير من السخرية ونقد الذات, غير ان اكثر ما يثير غضبهم هذه المرة هو سخرية شركائهم منهم, ففي نيويورك وصفت النيويورك بوست مشروع المطار بأنه نكتة في بلد يفتخر بأنه عنوان الكفاءة والدقة المتناهية في حين وصفته لوفيجارو الفرنسية بالمسرحية الهزلية التي جعلت الألمان يغرقون في مشاعر العار والخجل.