في أرقي بقعة علي النيل, تنتصب مازالت أطلال مبني الحزب الوطني المنحل منذ الهجوم عليه, وإحراقه عصر82 يناير قبل عامين. بيت أشباح مخيف وقبيح بجدرانه التي لوحتها النيران ولم تتركها إلا وقد تفحمت يعلوها الهباب, ونوافذه التي تحطم زجاجها, فصفر الريح علي حوافه المهشمة الحادة, وأشجاره التي تحجرت رافعة فروعها السوداء إلي عنان السماء كأصابع مردة عماليق, فأمعنت في كآبة المنظر. ولم نعرف الحكمة من وراء ترك أطلال ذلك المبني منتصبة حتي الآن علي ذلك النحو المروع فهل بقي المبني وأطلاله علي حالهما لأن خزينة الدولة خاوية وموازنتها عاجزة لا تسمح ببناء شيء مكانه؟.. وهل بقي لأن مستثمرا ما تحت تأثير الانكماش واستشراء العنف وعدم الاستقرار لم يتقدم لشراء الأرض والأطلال كيما يستغل أحدهما أو كليهما علي نحو أو آخر؟.. وهل بقي المبني لأن الكهن البيروقراطي المصري أراد ضمان بيع الأرض بأعلي سعر في وقت ازدهار لا انحسار؟.. وهل بقي لأن مشاكل قانونية تحوطه.. ولكن الإدارة لا تحفل بما هو قانوني إلي ذلك الحد؟.. وهل بقي لأن السلطة السياسية تريده عبرة خالدة لمن يعتبر, وعلامة إذلال تشعر أيا من الفلول بالإحباط والهزيمة كلما مر به. لا أحد يعرف علي وجه اليقين ما هو سبب الإبقاء علي أطلال الحزب الوطني المهدمة المحطمة المحروقة تنتصب مطلة علي النيل.. ربما كان من الأفضل والأرقي والأكثر منطقية أن يهدم المبني وتزال بقاياه وأنقاضه لتتحول أرضه ولو مؤقتا إلي مساحة خلاء مبلطة بترابيع البازلت, وربما إذا أردنا ربط هذه البقعة بأحداث يناير1102, نجعلها ساحة لعروض الشوارع التي شاعت إبان اعتصام التحرير, وعبر فيها الشباب عن أنفسهم بالغناء, والموسيقي, ولوحات القراقوز, والمسرح المفتوح, والرسم, وقرض الأشعار وإلقائها, وبحيث تصير البقعة مزارا ثقافيا له معني, أهم بكثير من دلالات أطلال الخراب التي ينعب فيها البوم وتحوم الوطاويط. نريد شيئا واحدا يتحرك إلي الأمام, نريد عمودا فقريا اسمه الإرادة ينتصب في بدن أجهزة دولة مترهلة عديمة الخيال, أنا أعرف أن بعض القائمين علي أمور الدولة الآن لا يحبون تلك التعبيرات الفنية أو الشباب الذين يقومون بإبداعها.. حسنا فليقلبوا تلك البقعة حديقة, أو نافورة, أو محل عصير قصب, أو أي شيء, ولكن لا يتركونها هكذا لتؤذي مشاعر الناس وتذكرهم بأقسي مشاهد يناير حين اجتاح المخربون المدينة وعبثوا بها علي نحو رهيب. المزيد من أعمدة د. عمرو عبد السميع