نظرا لتحفظات عدة لي علي الكثرة الغالبة من سياسات وزراء التربية في مصر, وسيرها وفق المنهج العكسي الذي يصرحون به بحيث التزمت- عمليا- بأنها سياسة وزير وليست سياسة وزارة, باستثناءات قليلة للغاية, خطر لي يوما أن أطلب مقابلة مقابلة الرئيس السابق حسني مبارك لعرض ما أتصوره مؤديا لإصلاح منظومة التعليم وتطويرها. أرسلت خطابا عاديا علي رئاسة الجمهورية بمصر الجديدة.. مرت أيام لم أحسب عددها, حتي فوجئت بمن يهاتفني قائلا أنه فلان, ضابط أمن دولة, ويطلب مجيئي إلي مقرهم في لاظوغلي. والحق أن الرجل تحدث لي بأدب وذوق واضحين, فشجعني هذا علي أن أجيب مازحا: وأحضر شنطة هدومي معايا؟ فضحك, مؤكدا أننا نسئ الظن بهم, وأنهم ليسواهكذا بالصورة الشائعة. فزادني هذا شجاعة في الحديث, قائلا: أنني رجل كبير السن, قد وهن العظم مني واشتعل الرأس شيبا, وان من العسير علي السفر من النزهة بآخر مصر الجديدة إلي لاظوغلي! فيواصل الرجل إظهار حسن معاملته, فيرد بأنه يمكن أن يرسل لي سيارة بضابط تجئ بي إلي لاظوغلي, فما كان مني إلا أن قلت: أخشيعندما يراني الجيران, مأخوذا في سيارة أمن دولة مصطحبا ضابطا منها أن يسيئوا الظن بي ويتحاشوا التعامل معي باعتباري مشبوها, ثم بادرت بسؤال: أليس لكم فرع في جامعة عين شمس, أذهب إليه؟ أجاب بالإيجاب, وحدد موعدا لي, حيث فوجئت رغم وجودي بالجامعة من أول الستينيات- بعدة مكاتب, في ركن خفي, كلها مقر لأمن الدولة داخل الجامعة, ونحن أعضاء هيئة التدريس, نتكدس في مكاتبنا,والبعض لا يكاد يجد مكانا. كانت المقابلة مجرد امتصاص, حيث سألني عن غرضي من طلب مقابلة الرئيس, وانتهي الأمر علي لا شئ! عاودتني الرغبة مرة أخري بمجئ الدكتور محمد مرسي, أول رئيس منتخب في تاريخ مصر, حيث التباين الواضح في المناخ, إذ استطعت الاتصال بمن يساعدونه, وأخطرتني الأستاذة الفاضلة الدكتورة باكينام الشرقاوي بأن الرئيس قد وافق علي مقابلتي, وتحدد لي يوم الإثنين14 من يناير الماضي, الثالثة والنصف عصرا بقصر الاتحادية. ولما جاءت لحظة المقابلة, صحبني إلي المكتب, الدكتور ياسر علي, المتحدث الرسمي, والذي سعدت أنه كان يسجل ما يجري في المحادث, ولمست علي الفور, كم أن الدكتور مرسي غاية في الأدب ودماثة الخلق والتواضع... ولأني لم أستأذن في نشر ما قاله الرئيس لي, سوف أقتصر علي ما قلته أنا له.. بادرت بالقول بأنني لم أجئ طالبا لمركز أو موقع, ذلك أن سني ونهجي الشخصي, الذي ينأي بي دائما عن المواقع الرسمية وأصحاب السلطة, يمنعاني من ذلك, وأحرص دائما علي أن أظل مجرد صاحب رأي وفكر, وبالتالي فإن مقابلتي لسيادته إنما بغرض إطلاعه علي ما لدئ من رؤي وأفكار, لعل الدولة تجد فيها بعض الخير, وأنني لا أطلب في سبيل ذلك جزاء ولا شكورا, وما أجري إلا علي الله, ومن أجل الوطن. وأتبعت هذا بالإشارة إلي أن المشكلة الكبري, أن المسئولين عن التعليم, قلما يحفلون بما يطرح من أصحاب الرأي والفكر, إلا إذا كانوا من أصحاب السطوة.. وإذا قربوا أحدا فلكي يكون مبررا و مفلسفا لما يقول به الوزير, حريصا علي أن يسمع ما يحب, لا ما ينبغي, وهو المستحيل الذي يمكن أن أفعله, مهماكان الثمن, حيث بالفعل دفعت الكثير, وخاصة طوال عشر سنوات من وزارة حسين بهاء الدين! من هنا فعلي الرغم من أني بدأت الكتابة علي صفحات الأهرام في السادس من يناير سنة1970, ثم في كل الصحف والمجلات منذ ذلك الوقت, حتي الآن, كانت كل كتاباتي, فضلا عن عشرات الكتب- كأنها حرث في الماء, باستثناء المقال الأول الذي أشعل مناقشات واسعة في معظم الصحف والمجلات, مما ترتب عليه رجوع وزير التربية( د.محمد حافظ غانم) عن قراره بحذف فصل من كتابي الذي كان مقررا في الفلسفة علي طلاب الثانوية العامة. ثم قلت للسيد الرئيس: أن سيادته, وما صرح به برنامج النهضة, بل وما من مسئول, وما من كاتب, إلا ويعلن بأنه لا تقدم لأمة إلا عن طريق النهوض بالتعليم, ولكن, علي المستوي التنفيذي, يتراجع هذا إلي الوراء, إن لم يختف, فكأن التعليم مصاب بتخمة في التقدير والحديث, وعلي المستوي الفعلي, يعاني من تراجع مخجل حقا, مؤسف فعلا.. وسقت أمثلة دلالة علي مشاعر أسي وحزن من أن العهد الجديد لا يلتفت بجدية إلي مصادر الرأي والفكر التربوي الأكاديمية للاستفادة منها, فلا أحد مثل هذه الجانب في الهيئة التأسيسية للدستور, ولا في تعيينات مجلس الشوري, ولا في المجلس الأعلي للصحافة, مع الاتحاد المعروف بين الصحافة والتعليم, كوسيلتا اتصال, تتطلبان تنسيقا وتعاونا, ولا المجلس القومي لحقوق الإنسان, بينما حق التعليم هو من أبرز الحقوق, وإذا كان البعض قد سخر من كثرة المستشارين الذين اختارهم الرئيس, فلم يكن هناك أحد أيضا عن التعليم.. وهكذا. وقلت أن التعليم إذا كان منظومة كلية, تتضمن الكثير من النظم الفرعية التي لابد أن تدور في فلك الإصلاح والتطوير, إلا أن بداية الإصلاح التعليم في مصر, تكمن في مقولة أرددها دائما وهي أن كليات التربية هي مصدر معظم مشكلات التعليم,وأنها هي نفسها الطريق إلي إصلاح التعليم, فهي التي تعد آلاف المعلمين الذين ينتشرون في طول البلاد وعرضها, يعلمون الملايين من أبنائنا, إن كان خيرا فخيرا وإن كان شرا فشرا! وقلت أنني قلت هذا أيضا لوزير التعليم العالي, في مقابلة دعاني إليها, لكن, لا شيء عملي بعد هذا. وسعدت أن جاءت سيرة الصالون الثقافي الذي ظللت أعقده عبر عشرين عاما,وقلت أنه متوقف منذ شهور, نظرا لأني أشعر بحزن كاسح, وقلق بالغ علي الحال في مصر, وأكاد أشعر بشئ من انسداد الأفق, القريب علي الأقل! بطبيعة الحال, كان سيادة الرئيس يرد ويناقش, إلي الدرجة التي أشعرتني أنه أسمعني, أكثر مما أسمعته, وكنت أتصور أن المفروض في هذا الموقف بالذات أن يحدث العكس! ما يقرب من خمس وأربعين دقيقة, استغرقتها المقابلة, وودعني الرجل, بمثل ما استقبلني به من دماثة خلق وتواضع, لكن: ما النتيجة؟ حتي الآن, لا شئ!