جولة جورج ميتشيل الأخيرة في الشرق الأوسط هي الأكثر أهمية بين كل جولاته السابقة في المنطقة. صحيح أن السيد ميتشيل لم يتحدث سوي للزعماء في فلسطين وإسرائيل خلال هذه الجولة إلا أن الجولات المتعددة للمحادثات التي عقدها في القدسورام الله والساعات الطوال التي استغرقتها تضفي علي جولة جورج ميتشيل الأخيرة أهمية خاصة. الولاياتالمتحدة تري أن الوقت قد حان لبدء المحادثات غير المباشرة بين الإسرائيليين والفلسطينيين. فإسرائيل وافقت علي بدء المفاوضات, وكذلك فعلت منظمة التحرير الفلسطينية, بعد أن حصلت علي تأييد الجامعة العربية, ومع هذا فإنه لا يوجد هناك سوي قدر محدود جدا من الثقة في احتمالات نجاح هذه المفاوضات في التوصل لاتفاق سلام مقبول قابل للحياة يمكنه أن يكون أساسا لسلام حقيقي في الشرق الأوسط. فالوضع الراهن بين الفلسطينيين والإسرائيليين يختلف كثيرا عن الوضع في المنطقة في مراحل سابقة استطاعت فيها أطراف الصراع تحقيق اختراقات كبيرة نحو السلام. ففي كل المرات السابقة التي حققت فيها عملية السلام تقدما مهما كان توافر الإرادة لدي أطراف الصراع المباشرين هو الأساس, بينما لعبت الولاياتالمتحدة دورا مكملا لتسهيل التعامل مع بعض العقبات. كان هذا هو الحال عندما وقعت مصر وإسرائيل اتفاقية السلام بينهما, كما كان هو الحال نفسه عندما توصل الفلسطينيون والإسرائيليون إلي اتفاق أوسلو, وهو ما يختلف كثيرا عن الوضع القائم اليوم. فالفجوة بين الفلسطينيين والإسرائيليين في المرحلة الراهنة واسعة بشكل غير مسبوق. ففي إسرائيل حكومة يمينية تقبل حل الدولتين لكنها تعرفه بطريقة لا يمكن للفلسطينيين القبول بها. وبينما قد يكون من الممكن دفع رئيس الوزراء نيتانياهو وحزب الليكود الذي يمثل يمين الوسط الإسرائيلي لإظهار بعض المرونة في المفاوضات مع الفلسطينيين, إلا إن الائتلاف اليميني الحاكم في إسرائيل شديد الهشاشة بحيث أن أي تحرك جدي من جانب رئيس الحكومة نيتانياهو في اتجاه السلام كفيل بالتسبب في انسحاب شركائه من اليمين المتطرف من الحكومة والتعجيل بانهيارها. الفلسطينيون علي الجانب الآخر ليسوا أحسن حالا بكثير. فإخفاق الجولات السابقة من المفاوضات في إنهاء الاحتلال وتمكين الشعب الفلسطيني من تحقيق أهدافه الوطنية في الاستقلال والسيادة لا يجعل الفلسطينيين مستعدين لبدء مفاوضات غير محددة المعالم تمنح إسرائيل مزيدا من الوقت لالتهام الأرض الفلسطينية وإيجاد وقائع علي الأرض يصعب التراجع عنها. وفي ظل الشكوك القوية لدي الرأي العام الفلسطيني في نيات إسرائيل, فإن القيادة الفلسطينية لا تتمتع سوي بهامش ضيق جدا للمناورة, وإلا خاطرت بخسارة التأييد المحدود الذي تتمتع به بين الفلسطينيين. ويتعمق مأزق الطرف الفلسطيني بسبب الصراع بين جناحي السلطة الفلسطينية في الضفة وغزة, فحركة حماس وحكومتها في غزة تأخذ موقف المعارضة والتشكيك في أي خطوة تتخذها حكومة رام الله, فليس لحركة حماس أي مصلحة في تسهيل الأمور علي خصمها الفلسطيني اللدود. الإسرائيليون والفلسطينيون, إذن, يبدون عاجزين عن التحرك مباشرة وبفعالية تجاه السلام, الأمر الذي دفع إدارة الرئيس أوباما للعب دور مختلف هذه المرة. فإدارة الرئيس أوباما تجاوزت دور' المسهل' الذي اعتادت القيام به في الماضي, وانتقلت لبذل جهد مباشر لدفع الطرفين للجلوس لمائدة التفاوض, وشرعت في اقتراح الأفكار والمخارج لقضايا جوهرية في المفاوضات. وتستحق إدارة أوباما التقدير والدعم علي جرأتها في التعامل مع هذا الملف المعقد, وعلي استعدادها للمخاطرة بسمعتها ومكانتها في بداية عهدها عبر وضع استثمار سياسي كبير في قضية توجد شكوكا كبيرة حول احتمالات تحقيق النجاح فيها. ولهذا بالذات تستحق إدارة أوباما وجهودها أن تحصل علي التشجيع والتعاون من جانب الأطراف العربية والدولية الراغبة في تحقيق سلام حقيقي في المنطقة. لا أحد في الإدارة الأمريكية يتصور قدرة المباحثات غير المباشرة علي تحقيق السلام, لكن الأمريكيين يتصورون أن هذه المباحثات تمثل مرحلة ضرورية يمكن لها أن تمهد الأجواء لمرحلة تالية ولشكل آخر من المفاوضات يمكن أن يكون أكثر فعالية. فالأمريكيون يراهنون علي احتمال تحقيق إنجازات من خلال المحادثات غير المباشرة يمكن البناء عليها في مراحل تالية. فتحسين ظروف حياة الفلسطينيين في الضفة وتخفيف الحصار علي غزة يمكن أن يرفع ثقة الرأي العام الفلسطيني في المفاوضات, كما أن تحقيق تقدم جدي ولو محدود في المفاوضات حول قضايا جوهرية يمكن له أن يسهل تحقيق المصالحة بين فتح وحماس, أو علي الأقل تخفيف معارضة حماس لكافة أشكال التفاوض. أما علي الجانب الإسرائيلي, فإن تقدم المفاوضات قد يغري حزب كاديما الوسطي علي الانضمام لحكومة نيتانياهو علي حساب أحزاب اليمين المتطرف التي تمثل عقبة كبيرة أمام تقدم المفاوضات. السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط لا تمثل تنفيذا دقيقا لخطة محكمة, لكنها مع ذلك تمثل الخطة الوحيدة المطروحة في وقت انغلقت فيه سبل الحرب التي لاتجلب شيئا غير الدمار, وسبل السلام الدائم والعادل الذي لا صراع بعده. ولهذا تستحق السياسة الأمريكية الراهنة برغم غموضها دعم وتعاون الأطراف التي تريد القيام بدور بناء في معالجة مشكلات المنطقة وفي مساعدة الشعب الفلسطيني علي تحقيق أهدافه الوطنية.