أتذكر أنني شاركت يوم17 يناير2011 بعد نجاح الثورة التونسية في حلقة نقاشية بأحد مراكز الدراسات السياسية حضرها أكثر من عشرين من المفكرين والناشطين السياسيين, وكان السؤال المطروح في هذه الحلقة هو هل يمكن أن يتكرر الحدث التونسي في مصر؟ وبعد مناقشات دامت عدة ساعات توصل المجتمعون إلي استحالة تكرار الحدث التونسي في مصر لأسباب كثيرة منها علي سبيل المثال أن هناك طبقة سميكة من المنتفعين ببقاء النظام السابق تحول بين الشعب المصري وآماله في التحول والتغيير اعتمادا علي ما قاله فولتير عراب الثورة الفرنسية من أن المستبد يحول ربع شعبه إلي منتفعين يقاتلون دونه. وأسباب أخري متعلقة بنسب الأمية والفقر في المجتمع المصري الذي يجعل أولويات المجتمع مرتبطة بالإصلاح الاقتصادي أكثر من الإصلاح السياسي. ولكن صوت عبد الرحمن الكواكبي كان حاضرا عندما ذكرت أن شروطه في هزيمة الاستبداد هي الحاكمة وهي ما ينبغي أن نجيب بها عن هذا التساؤل,ولأن تاريخ الثورات المصرية منذ ثورة القاهرة الكبري تؤكد صحة ما وصل إليه الكواكبي. وفي أيام الحرية التي تعيشها مصر ونحن نقترب من الاحتفال بالذكري الثانية للثورة العظيمة ثورة الخامس والعشرين من يناير,التي تعد الحلقة الأخيرة في سلسلة نضال المصريين من أجل انتزاع حريتهم وتأكيد حقوقهم في الكرامة والعدالة الاجتماعية وتأكيد سلطة الشعب وحقه الأصيل في تشكيل واختيار نظامه السياسي. وكنت قد عرضت علي قارئي في المقال السابق شروط نجاح الثورات التي وضعها الكواكبي في كتابه الرائع' طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد'لنجيب عن السؤال المهم وهو كيف نجحت ثورة الخامس والعشرين من يناير, وكيف يمكن أن تستمر العوامل التي أوجدتها حاضرة في الوعي الجمعي للمصريين حماية لتلك الثورة العظيمة وللمجتمع من التفريط في مقدراتها ونتائجها. وعرضنا هذه الشروط علي تاريخ النضال المصري لنختبرها ولنعي درس التاريخ لأن من وعي التاريخ في صدره أضاف أعمارا إلي عمره,حيث استعرضنا تجربة المصريين في ثورة القاهرة الأولي والتي كانت وبلا شك ثورة استكملت بعضا من الشروط الأربعة اللازمة لنجاح الثورات واستمرار حيويتها وتدفقها. وإذا كانت ثورة القاهرة الأولي هي من أوائل أيام الحرية والنضال المصري فإن ثورة1919 هي حلقة مهمة ويوم عظيم من هذه الأيام التي يجب أن نتوقف أمامها نختبر بها هذه الشروط, حيث وجد المجتمع المصري نفسه بعد انتهاء الحرب العالمية الاولي, يعاني سوء الأحوال المعيشية مع ما صاحب ذلك من إعلان الإنجليز للأحكام العرفية علي مصر. وكانت سلطة الاحتلال أثناء الحرب تصادر ممتلكات الفلاحين من أجل المساهمة في تكاليف الحرب, كما حرصت السلطات العسكرية علي إجبار الفلاحين علي زراعة المحاصيل التي تتناسب مع متطلبات الحرب مع بخسه ثمن هذه المحاصيل,وتم تجنيد مئات الآلاف من الفلاحين بشكل إجباري للمشاركة في الحرب فيما سمي بفرقة العمل المصرية التي استخدمت في الأعمال المعاونة وراء خطوط القتال. وعندما انتهت الحرب العالمية الأولي بانتصار الحلفاء وخرج العالم يردد مبادئ ويلسون الأربعة عشر علي اعتبار أنها ستنصف الشعوب المحتلة استنادا إلي مبدأ حق تقرير المصير,ذهب زعماء مصر يرأسهم سعد زغلول إلي المندوب السامي البريطاني ونجحوا في الحصول منه علي موافقته علي السفر إلي باريس لعرض قضية استقلال مصر علي مؤتمر الصلح هناك.. وحتي تكون لسعد زغلول صفة الوكالة عن الشعب في المطالبة بحقوقه, بدأت حملة توقيعات علي عرائض بتوكيل سعد زغلول ورفاقه, وجاء رد الخارجية البريطانية- التي كان يرأسها بلفور- برفض ذلك الطلب تحت دعوي أن' الوقت الذي يصبح فيه ممكنا منح مصر حكما ذاتيا لم يحن بعد'. وكانت حركة توقيع التوكيلات قد ألهبت المشاعر الوطنية في مواجهة سلطات الاحتلال التي نشطت في قمع التفويض الشعبي لسعد زغلول ورفاقه. وإزاء تعاطف قطاعات شعبية واسعة مع هذا التحرك, قامت السلطات البريطانية بالقبض علي سعد زغلول وثلاثة من أعضاء الوفد هم محمد محمود وحمد الباسل وإسماعيل صدقي,ونفتهم إلي مالطة في الثامن من مارس عام1919, وكان ذلك إيذانا بقيام الثورة. إذن الشروط الأربعة التي تحدثنا عنها كانت قد اكتملت إلي حد كبير.. فالغضب العام لم يستثن أحدا, والإصرار علي النضال المدني السلمي كان هو السمة الغالبة للتحركات الشعبية لهذه الثورة,وإعداد البديل المطلوب الذي تمثل في الحرية والنظام الديمقراطي الدستوري, وكذلك الحادث المؤلم الملهم الذي جري مع نفي زعماء الوفد المصري إلي جزيرة مالطا. وفي9 مارس1919 صبيحة اعتقال سعد زغلول وأعضاء الوفد, أشعل طلبة الجامعة في القاهرة شرارة التظاهرات, وفي غضون يومين, امتد نطاق الاحتجاجات ليشمل جميع الطلبة بمن فيهم طلبة الأزهر. وبعد أيام قليلة كانت الثورة قد اندلعت في جميع الأنحاء من قري ومدن, وخرجت جميع طوائف الشعب في هذه الثورة, فقد كانت ثورة شعبية بحق, شارك فيها العمال والطلبة والفلاحون,وخرجت المرأة في مظاهرات فأبهرت المجتمع بجرأتها ووطنيتها. ولم تتوقف احتجاجات المدن علي التظاهرات وإضرابات العمال, بل قام السكان في الأحياء الفقيرة بحفر الخنادق لمواجهة القوات البريطانية وقوات الشرطة وكذا قطع خطوط السكك الحديدية ومحاولة شل حركة قوات الاحتلال, وعقب انتشار قطع خطوط السكك الحديدية, أصدرت السلطات بيانات تهدد بإعدام كل من يساهم في ذلك وبحرق القري المجاورة للخطوط التي يتم قطعها. وتم تشكيل العديد من المحاكم العسكرية لمحاكمة المشاركين في الثورة, ولم تتردد قوات الأمن في حصد الأرواح, كما حدث في الفيوم عندما تم قتل أربعمائة من البدو في يوم واحد علي أيدي القوات البريطانية وقوات الشرطة المصرية. ولم تتردد القوات البريطانية في تنفيذ تهديداتها ضد القري, كما حدث في قري العزيزية والبدرشين والشوبك وغيرها, حيث أحرقت هذه القري ونهبت ممتلكات الفلاحين. وإذا تطرقنا إلي نتائج الثورة, فإن المجال لا يتسع للحديث عنها بالتفصيل, ولكن يمكن القول بأنها وإن لم تؤد إلي تحقيق الاستقلال فقد كانت لها آثار مهمة علي تطور الحركة الديمقراطية.. فقد أسفرت عن نشأة حزب الوفد وأحزاب أخري ووضع أول دستور لمصر في عام1923 وقيام أول حكومة منتخبة هي حكومة الوفد.. في الوقت نفسه, فقد نبهت الثورة الطبقات العليا من كبار الملاك إلي أهمية الاعتبار للتحرك الجماهيري وأهمية إدراك قدرة الإرادة الشعبية علي التغيير.. .. وللحديث بقية في المقال القادم بإذن الله. المزيد من مقالات د.ياسر على