يستمر الانقسام و تستمر المظاهرات بين مؤيد و معارض لمشروع الدستور وتستمر معها الاشتباكات بين الجانبين ويسقط قتلي ومصابون ويظل الاستقطاب السياسي والصراع المجتمعي قائما والتوافق غائبا. ومازال قطاع واسع بالسلطة القضائية علي رفضه للاشراف علي الاستفتاء بسبب الانتقاص من استقلال القضاء سواء في ذلك المشروع أو بحكم ممارسات السلطة التنفيذية التي باتت تعلو بقراراتها واعلاناتها الدستورية المتكررة فوق السلطة القضائية. مازالت أيضا النقابات المهنية وفي مقدمتها نقابتا المحامين والصحفيين غاضبة. وتزداد حركات الاحتجاج السياسي و الاجتماعي بصورة تعيد الي الاذهان مشهد ما قبل25 يناير. وتنقسم الساحة الحزبية بوضوح بين الاحزاب والقوي الاسلامية من ناحية وتلك المدنية من ناحية أخري وتتصاعد معها أزمة الثقة والشكوك المتبادلة وتترجمها الحشود المعبرة عن كل قطاع منها علي أرض الواقع والتي تمتد من حصار قصر الاتحادية الي حصار مدينة الإنتاج الإعلامي ليصبح الحصار سياسيا وفكريا واعلاميا. هكذا تقف الأطراف المتصارعة علي طرفي نقيض. تحاول المؤسسة العسكرية أن تبدو طرفا محايدا أو حكما يجمع الأطراف تحت مظلته فتفشل الخطوة سياسيا لأن الوضع ما بعد الانتخابات الرئاسية لم يعد هو نفس الوضع الذي كان قائما وقت وجود المجلس العسكري كسلطة تدير المرحلة الانتقالية فكانت بمثابة البحث عن الفرصة الضائعة التي من الصعب أن تعيد عجلة الزمن الي الوراء. والأطراف المؤيدة لمشروع الدستور أو الذهاب الي الاستفتاء الآن تصر علي ضرورة الاسراع بالانتهاء منه و تشعر بضغط الوقت. ليس لأن هذا المشروع هو مشروع مثالي حتي من وجهة النظر المؤيدة تلك, فقد تم الاعتراف بامكانية تعديل بعض المواد الخلافية حال وجود مجلس شعب جديد لتبرير سرعة تمريره. ولا شك في أن الحالة الاقتصادية المتردية وتراجع صندوق النقد الدولي عن تقديم القرض المأمول بسبب اضطراب الأوضاع السياسية وعدم استقرارها. وأيا كانت اسباب الاستعجال, فالاستفتاء علي أي مشروع لدستور جديد- من المفترض أنه جاء بعد ثورة- لا يمكن ان يتم في مناخ اجتماعي محتقن وفي بيئة سياسية صراعية قابلة لعنف متصاعد وفي ظل حالة من التربص بين القوي السياسية المختلفة, وهي كلها عوامل تؤدي الي عدم الاستقرار بل وتزيد منه. إذا كان مشروع الدستور مرضيا للقوي الاسلامية التي هيمنت في النهاية علي الجمعية التأسيسية بعد انسحاب التيارات الأخري منها, الا أنه ليس كذلك بالنسبة لباقي القوي السياسية بأطيافها المختلفة, كما أنه ليس كذلك أيضا بالنسبة لشرائح اجتماعية عديدة تمثلها الطبقة الوسطي التي خرجت عن سلبيتها التي أجبرت عليها عقودا طويلة, ولا يمكن قمعها مرة أخري تحت أي مسمي استبدادي. كما أن القوي السياسية والاجتماعية الرافضة لمشروع الدستور الحالي تري أنه لم يأت بجديد في أغلب مواده خاصة فيما يتعلق بالصلاحيات الواسعة لرئيس الجمهورية التي تعد تقريبا تكرارا لما جاء في دستور1971, كما أنه لم يعالج اشكالية الحريات في مجالات التعبير والاعلام إلا بعبارات فضفاضة يقيدها القانون في النهاية مثلما لم يضف شيئا الي وضع النقابات المهنية و منظمات المجتمع المدني, بل واعتبر أكثر تقييدا مما كان عليه الوضع من قبل. أما عن حقوق المرأة في المجال السياسي والعام فقد تم الاستغناء عنها نهائيا ليختزل الحديث حولها في عبارات نمطية تشيرالي المرأة المعيلة و الأرملة وكيفية التوفيق بين أسرتها وعملها. أيضا لم تحظ قضية العدالة الاجتماعية التي كانت هدفا أساسيا لثورة يناير باهتمام يذكر سوي تكرار لما جاء في مادة(23) من دستور1971 بالتزام الدولة بحد أدني للأجور دونما تحديد للقيمة المفترضة, مع حذف أهم ما جاء بنفس المادة في الدستور السابق بتحديد الحد الأقصي رغم أن تلك الفجوة تمثل القضية الحقيقية التي تعاني منها أغلب مؤسسات الدولة الآن. أما دور الدولة في الرعاية الاجتماعية كما جاء في المواد من(58- الي67) فقد ظل دون التزامات واضحة. إذن فمن الناحية السياسية والاقتصادية والاجتماعية ليس هناك ما يشكل علامة فارقة في مشروع الدستور الحالي مقارنة بدستور1971. إن الأخطر من ذلك هو ما يتعلق بالحريات المدنية والفردية, حيث جاءت معبرة عن توجهات فصيل سياسي واحد, فضلا عن صياغتها في عبارات مطاطة يصعب تحديدها بدقة دستوريا و قانونيا أو تم تقييدها بنصوص صريحة وضعت تحت عنوان عريض هو الأخلاق ومن امثلة ذلك المادة(81) التي تربط التمتع بالحقوق و الحريات الشخصية بعدم تعارضها مع مقومات الدولة و المجتمع دونما تحديد, والمادتان(10 و11) اللتان تلزمان كل من الدولة والمجتمع برعاية وحماية الأخلاق والآداب والطابع الأصيل للأسرة المصرية وهي مواد تفتح الباب واسعا لتدخل الدولة. في السياق نفسه تأتي المادة(33) والمفترض أن تكون المادة الأساسية الضامنة لحقوق المواطنة, لتكتفي بالاشارة الي المساواة بين المواطنين في الحقوق و الواجبات دون تمييز, حاذفة باقي العبارة المنصوص عليها في دستور1971 مادة(40) بأنه لا تمييز بسبب الجنس أو الأصل أو اللغة أو الدين أو العقيدة. يضاف الي ذلك اللمحة الطائفية التي يمكن أن تؤول بها بعض المواد المستحدثة مثل المادة(219) التي تفسر المادة الثانية الخاصة بمباديء الشريعة الاسلامية كمصدر رئيسي للتشريع لتضيف اليها المذاهب المعتبرة عند أهل السنة والجماعة لتترك للمشرع أو المحاكم تفسيرها في ظل خلافات معروفة بين المدارس الفكرية و المذاهب الفقهية الاسلامية التي تتراوح بين التشدد و الاعتدال. كذلك المادة(4) التي تعطي دورا سياسيا صريحا لأول مرة لمؤسسة الازهر من خلال هيئة كبار العلماء تفضي بأن يؤخذ رأيه في الشئون المتعلقة بالشريعة, و هو ما يعني عمليا دخولها كطرف في الخلافات و الصراعات السياسية مما يؤثر سلبا علي الدور الدعوي الوسطي لتلك المؤسسة العريقة. وأخيرا المادة(3) التي تنص علي احتكام المسيحيين واليهود الي شرائعهم, لنكون بذلك ازاء الاحتكام الي مرجعيات دينية تبتعد عن مفهوم الدولة المدنية الديمقراطية التي تقوم علي سيادة القانون و مفهوم موحد للمواطنة. المزيد من مقالات د . هالة مصطفى