كان واضحا عندما تنحي الرئيس السابق حسني مبارك في13 فبراير2011 أن حجم الخراب الذي تركه نظامه أكبر من أن يحمله أي حزب أو فصيل أو جماعة منفردا. فقد تعرضت مصر مجتمعا واقتصادا وسياسة وثقافة لتجريف لا مثيل له في تاريخها الحديث. كما عاني معظم شعبها من ظلم اجتماعي شديد نتيجة سياسات انحازت بشكل كامل للفئات والشرائح العليا في المجتمع. ولذلك كان مطلب العدالة الاجتماعية في مقدمة أهداف ثورة25 يناير. غير أن الشروع في تحقيق هذه العدالة يتطلب برنامج عمل وطنيا متكاملا وأجواء ملائمة تتيح إمكانات فتح حوار اجتماعي موضوعي وجاد يضع الركائز اللازمة للتعاون في تحقيق هذا البرنامج من خلال أوسع مشاركة ممكنة من جانب مختلف الأطياف في الساحة السياسية في المجتمع. وليس ممكنا التطلع إلي شئ من ذلك في ظل حالة انقسام سياسي وفكري حاد تخلق استقطابا شديدا وتجعل الشارع ساحة لصدام قد لا تحمد عقباه إذا لم نضع حدا له ونحاصر مستصغرات الشرر التي قد يشعل أي منها نارا تأكل الأخضر واليابس. ولم تكن الدعوة التي تبناها بعض السياسيين والمثقفين والشخصيات العامة إلي شراكة وطنية إلا تعبيرا عن الحاجة الماسة إلي تعاون لحمل تركة ثقيلة مليئة بالصعوبات, وفي مقدمتها الظلم الاجتماعي المتراكم عبر عقود من الزمن. فلا سبيل إلي التحرك في هذا الاتجاه بدون حوار اجتماعي جاد لا يمكن التطلع إليه في ظل صراع ينطوي علي انقسام بلغ مبلغ الاستقطاب الذي قسم المصريين علي نحو لا سابق له. فالشراكة الوطنية ليست تقاسما لسلطة أو توزيعا لمناصب. فلم يعد للسلطة نفوذها وسطوتها, ولا بقيت للمناصب وجاهتها. وما هذه الشراكة إلا تعاون لمواجهة مشاكل لا قبل لأحد بها وحده. ولذلك فعندما طرح كاتب السطور رؤيته لهذه الشراكة في بداية الجولة الثانية للانتخابات الرئاسية, حرص علي تأكيد أنها تبدأ بالموضوع والقضية والمنهج وليس بأي شئ آخر. وكان ذلك في لقاء جمع الرئيس محمد مرسي حين كان المرشح المفضل لدي القوي الوطنية وأنصار ثورة25 يناير في بداية الجولة الثانية للانتخابات الرئاسية التي نافسه فيها الفريق أحمد شفيق. ضم ذلك اللقاء, الذي عقد في فندق كمبنسكي, نحو ثلاثين من السياسيين والشخصيات العامة أراد مرسي الاستماع إلي رؤيتهم للمعركة الانتخابية في جولة الإعادة. وركز كاتب السطور حينئذ علي أهمية الشراكة الوطنية, وقدم اقتراحا محددا تبدأ به هذه الشراكة هو أن يتبني مرسي برنامجا سياسيا مرحليا تعمل علي أساسه أول حكومة يشكلها عقب فوزه في جولة الإعادة, وأن يكون هذا البرنامج مستمدا من برامج جميع مرشحي الثورة الذين شاركوا في الجولة الأولي ولم يحالفهم التوفيق, وهم: حمدين صباحي وعبد المنعم أبو الفتوح وهشام البسطويسي وخالد علي وأبو العز الحريري. وتضمن هذا الاقتراح أن ينتهي الاجتماع المشار إليه بتشكيل مجموعة عمل تكون مهمتها استخلاص برنامج الشراكة الوطنية من القواسم المشتركة في برامج مرشحي الثورة أولئك, وإعلان مرسي التزامه بأن يكون هو برنامج حكومته حال فوزه. وعندما تبدأ الشراكة الوطنية ببرنامج تنبثق عنه خطط عمل محددة, يصبح الموضوع هو الأساس وليس الأشخاص الذين يتم اختيارهم وفقا لمتطلبات تنفيذ هذا البرنامج والخطط المرتبطة به, سواء رئيس الحكومة والوزراء أو أعضاء الفريق الرئاسي. غير أن تجاهل مثل هذا الاقتراح وغيره من النوع نفسه أدي إلي توسيع الفجوة بين الأحزاب والقوي التي وقفت يدا واحدة خلال ثورة25 يناير. فقد ازداد شعور معظم هذه الأحزاب والقوي بالإقصاء والاستبعاد, وتنامت مخاوفها من تداعيات انفراد فصيل واحد بالسلطة وغلق الجسور التي كانت مفتوحة من قبل, الأمر الذي أدي إلي اشتداد التوتر والاحتقان ووصول الانقسام إلي مستوي ينذر بالخطر. ويستعصي في مثل هذا الوضع الذي يعلو فيه صوت الصراع, ويظهر الاستقطاب مجسدا في الشارع وليس فقط في الساحة السياسية, إجراء حوار حول كيفية معالجة الوضع الاقتصادي المتدهور وحل المشاكل الاجتماعية المتفاقمة. فعندما يشتد الركود ويتعذر جلب استثمارات جديدة وتغلق مصانع وشركات أبوابها ويصعب تحقيق نمو اقتصادي يعتد به, لابد أن تتفاقم الأزمة الاجتماعية. وعندئذ يصبح صانع القرار في أصعب وضع يمكن تخيله, لأن متطلبات دفع الاقتصاد نحو النمو تتعارض مع مستلزمات تحقيق العدالة الاجتماعية. وهذه معضلة كبري لا يمكن معالجتها بدون حوار اجتماعي في أجواء تتوافر فيها الثقة اللازمة لإقناع المجتمع بأن تحقيق العدالة يتطلب جهدا ووقتا. ولا سبيل إلي ذلك بدون شراكة وطنية توجه رسالة قوية إلي المجتمع مفادها أن هذه الشراكة هي الضمان الحقيقي لنجاح الجهد المبذول من أجل تحقيق العدالة في مدي زمني محدد يتم الالتزام به. وفي غياب الشراكة الوطنية الضرورية لتحقيق هذا كله, يلجأ صانع القرار إلي وسائل قد تساعده مرحليا ولكنها تنطوي علي أعباء كبيرة مثل الاقتراض من صندوق النقد الدولي, ويجرب اتخاذ قرارات اجتماعية قاسية تنطوي علي رفع أسعار وضرائب سلع وخدمات أساسية, ثم يضطر إلي وقف سريانها لما تؤدي إليه من زيادة أعباء فئات واسعة من المجتمع لديها ما يكفيها من معاناة ولم تعد قادرة علي تحمل المزيد. فليس في إمكان الفئات الفقيرة والمتوسطة أن تتحمل زيادة في الإنفاق علي الكهرباء مرتين خلال أسبوع واحد, إحداهما في أسعار الكيلووات والثانية في الضريبة علي هذه الأسعار. وقل مثل ذلك عن زيادة الضرائب المفروضة علي الدخل وعلي سلع لا يمكن الاستغناء عنها. وفي غياب بدائل لمثل هذه القرارات القاسية, لم يكن ممكنا إلغاؤها. ولذلك أوقف سريانها لإجراء( نقاش مجتمعي حولها يتولاه الخبراء المتخصصون). ولكن هذا النوع من النقاش لا يقدم ولا يؤخر, بخلاف الحوار الاجتماعي الواسع حين يجري في أجواء من التوافق والشراكة الوطنية. فأين هي هذه الأجواء في ظل احتدام صراع يقسم أبناء مصر ويهدد مستقبلها. المزيد من مقالات د. وحيد عبدالمجيد