أتعستنا بحمد الله قص البنت سين, وندعو الله لها بالهداية والتوبة.. وكم كان يسعدنا ولايتعسنا أن نسمع قصة البنت نون تلك الفتاة الفقيرة الشريفة التي دفعتها كل ظروف الحياة للاتجاه نحو الرذيلة والفساد لكنها بتمسكها بشرفها ودينها مازالت عفيفة شريفة تعمل في جد واجتهاد وتقاوم كل مغريات الحياة الفاسدة, أي قصة حياة فتاة مصرية تمثل99% من فتيات مصر( مش كده ولا أيه)؟! هذه الرسالة جاءتني من الدكتور نبيل فتح الله الأستاذ بكلية الهندسة, جامعة الأزهر, وهي واحدة من تعليقات كثيرة علي حكاية البنت سين التي كتبتها قبل أسبوعين ف سين بنت أصول وجامعية وانحرفت إلي طريق الرذيلة دون فقر أو عوز, فبدأ انحرافها عبثيا غير مفهوم... وهذا سر كتابة حكايتها, لعلنا نعرف ما يدور حولنا وكيف تتغير حركة الناس والقيم. وبالطبع حملت أغلب التعليقات الأب والأم مسئولية انحراف سين فهما غافلان مهملان, ربما يعانيان من مشكلات عميقة. لكن يبقي سؤال مهم: هل البنت سين وأسرتها مجرد نفوس ضعيفة أم هم دليل علي شيء ما يحدث في جنبات المجتمع ونحن نتغافل عنه؟! بالقطع نسيج المجتمع في حالة تآكل واضحة خاصة في الطبقة الوسطي رمانة الميزان, والطبقة الوسطي هي مفتاح الاستقرار والنهضة في أي مجتمع حديث, هي منبع القيم والعمل الجاد يخرج منها المبدعون والفنانون والمفكرون والمهندسون والأطباء اساتذة الجامعات والمحامون, وتكون في أتم عافية لها, حين يسمح لها النظام السياسي بالنمو والصعود والتفوق وفق معايير الكفاءة والاخلاق, لأن هذه الطبقة لا تملك قوة المال ونفوذه, وإنما تملك النزاهة والشرف والقدرة علي الابتكار والإبداع والاجتهاد والمحافظة علي قيم الوقت واتقان العمل المتواصل, فترتفع تلك القيم في مواجهة المجتمع, وتعتبرها سلم الصعود الاجتماعي الشرعي. لكن الطبقة الوسطي ايضا يمكن أن تنقلب إلي حاضنة للفساد, ومستنقع للسفالة, عندما تضيق بها الحياة ويقيدها النظام العام بسلاسل المحسوبية والرشوة والواسطة وإهدار قيم العمل والشرف, والشرف ليس هو عرض المرأة كما يتصوره البسطاء وتتحدث عنه أفلام السينما الأبيض والأسود, وإنما حالة متكاملة من السلوك والتصرفات. باختصار حين تضيق فرص الصعود الاجتماعي بالقيم النبيلة, تبدأ الطبقة الوسطي في التحلل من تلك القيم فتتقن الانتحازية والنفاق والتدليس وتهدر الوقت ويفتر اجتهادها وتمارس بدلا منه نوعا من الجهد الكاذب والدعاية عن أعمال تبدو حقيقية وهي نصف عمل ونصف اتقان أو أقرب إلي ادعاء العمل. إذا ضاقت الفرص امام الطبقة الوسطي تستجيب فورا لهذا المتغيرات, وتستبدل قيمها العامة الايجابية ليحل محلها قانون القفز من البيت المشتعل فيه النيران أو السفينة التي علي وشك الغرق بأسرع وسيلة أو بأحط وسيلة حتي لو كان علي حساب النساء والأطفال, لا يهم, لأن منطقا وحيدا يحكم الجميع أنا ومن بعدي الطوفان. ولهذا ليس غريبا ما نسمع عنه في الجامعات علي سبيل المثال من صراعات وغش ورسائل علمية مسروقة أو ترقيات فاسدة أو تدخل في الكنترول أو ان تتدني بعض أخلاق الأطباء إلي سرقة اعضاء بشرية من المرضي دون علمهم, أو لجوء بعض المستشفيات إلي عمليات مشبوهة, أي أن العمل غير المشروع لم يعد مقصورا علي فرد وإنما تسرب ايضا إلي مؤسسات, وقد ضرب مهنا محترمة ووصل إلي أعتاب أجهزة وهيئات لا نجرؤ أن نذكر أسمها من فرط احترامنا لها. المدهش أن كل الاحاديث لاتخلو من المرارة أو الأسي عن هذا الهبوط والتدهور ونتعامل معه علي أنه قدر مكتوب لا مفر منه فنستسلم له ولا نقاوم ابتلاعه لنا. هل نقف ساكتين مكتوفي الأيدي أمام هذا الواقع شديد الخطورة؟! لقد سبق وحذرتنا أكثر من دراسة, لكننا أهملناها, وأذكر منها دراسة مبكرة جدا للدكتورة نادية رضوان عن الشباب المصري المعاصر وأزمة القيم رصدت فيها الفروق الرهيبة التي تفسخ علاقات المجتمع بعنف إذ قالت لها فتاة من عينة الدراسة: أنا زهقت من العربية المرسيدس, دي بقالها سنة كاملة عندي وعشان كده بابا وعدني السنة دي ب بي.أم.دبليو. وفي دراسة للدكتور عاطف فؤاد علي376 عينة بينت أن المجتمع يغيب عن أفراده الاحساس بالعدالة, العدالة الاجتماعية والاقتصادية المتعلقة بالتوزيع العادل للثروة والمناصب المرموقة والفرص المتاحة, وكذلك العدالة الجنائية, إذ يكاد ينعدم الشعور بأن الجميع سواسية أمام القانون, ويطفون يقين أن ثمة كبارا لهم قانون.. والناس العاديون لهم قانون آخر. وعادي في مثل هذه الأوضاع يفكر كل فرد في حل مشكلاته بأي طريقة وأن يحصل علي القرش من أي باب. ومن الطبيعي أيضا أن تزحف القيم الاستهلاكية علي وجدان الناس وعقولهم فتطرد بالتبعية القيم التقليدية التي عاشوا عليها, فالإنسان بشكل عام ابن البيئة والظروف وليس ملاكا معزولا عن الحياة, وبالتدريج تسود في بنية المجتمع ثقافة جديدة تتضاءل فيها قيمة الفرد إذا لم يشارك الآخرين نمط الاستهلاك الشائع خاصة في الادوات والاجهزة الحديثة من عقارات وسيارات وأثاث وترفيه.. الخ وتتحول العلاقات بين الأفراد إلي علاقات بين أشياء ويصبح الاستهلاك قيمة في حد ذاته, وكلما زاد ارتفعت قيمة المستهلك ومكانته في عيون الآخرين, فصار عاملا مكملا للثقافة الشعبية ورمزا لكل الحاجات اليومية سواء منها الاخلاقية أو الاقتصادية. والاستهلاك يلزمه فلوس لا يهم من أين تأتي أو كيف تأتي المهم أن تأتي حتي لو تنازلنا عن قيم عظيمة كنا نؤمن بها. باختصار.. إذا تضاءلت فرص الصعود الاجتماعي والاقتصادي بالقيم النبيلة في العمل والحياة, لا تقف المجتمعات علي رصيف الاستقرار تنتظر قطار الصعود المقصور ركوبه علي من يحوز تذكرة لا تعترف بهذه القيم, فيتدافع أهله ويقفزون من فوق أسوار النظم التي ضاقت عليهم, ويستحدثون اشكالا في العلاقات تلائم الأحوال السائدة, تنتج لنا عوادم كثيفة علي هيئة جرائم غير مألوفة وعشوائيات في السلوك والأفعال وفساد نتأقلم معه ونحتفي بأصحابه, ومنظومة قيم تفرز لنا حكاية البنت سين! [email protected]