عندما يتبعثر عموم المشهد, يتبعثر العقل حتما, و يجد المرء نفسه زائغ البصر, يتلمس خيوط الأفكار المتناثرة من حوله, يتتبع بداياتها ملهوفا لعله يبلغ مداها, كمثل اللاهث وراء بصيص الضياء يقتفي أثر شعاع النور طمعا في لحظة تتبدد فيها غيوم واقع أليم أحاط بالناس فجأة. فإذا بالناس لا تبرح الشوارع زمرا, تلتحف الأرصفة رغم أنف برودة الطقس, تتقاتل من أجل حبر مسطور علي ورق, حرك كمثل الساحر مخاوف تسارعت لها دقات القلوب, وحناجر تفجرت طاقاتها, وخناجر لمعت في جوف ليلة ليلاء, لم يطفئ لمعتها سوي سيل دماء, فلا مغلوب ولا غالب, وإنما مجرد مشهد عبثي وقوده سوء الفهم, و سوء الظن, وكثير من دهاء!! وبين هذا وذاك, يقف المرء حائرا عاجزا, وهو الذي يبصر ما وراء أسباب انفعال الاثنين, يخفض لهما جناح( العذر) من( الحكمة): فثق بأن ذلك الملتحي المفعم حماسة في غمار الأحداث هو في حقيقة نفسه يشعر باغتراب داخل أروقة( مجتمعه) منذ سنوات و سنوات, والاغتراب يقود إلي العزلة, و العزلة تقود للانطواء, والانطواء يولد الحساسية, والحساسية تدفع إلي التشكك, والتشكك يؤدي إلي التحفز, والتحفز يوحي بالهجوم, والهجوم محفز( للتكتل): فإما الدفاع أو الهجوم.. و الاثنان وجهان للعنف!! و ثق بأن اعترافك أنت بغربة هؤلاء هو أكبر دليل علي أن( غير الملتحي) المتقد حماسة في الجانب الآخر يشعر تجاه هؤلاء بالاستغراب, والاستغراب يوحي بالندرة, والندرة تعزز الشعورفي المقابل بالكثرة, والكثرة توحي بالقوة, والقوة تغري بالهجوم, والهجوم وجه قبيح من وجهي العنف!! و ثق بأن فنون حشد الناس, وإن كان قوامها( في البدء) حسن التنظيم والتخطيط كشرط أساسي لإنجاح هذا الاحتشاد, فإن الفوضي هي مآل أي احتشاد في النهاية لا مفر; ذلك لأن الحشود بطبيعة تركيبتها لا ضابط لها إذا ما تلاقت; وذلك بحكم استحالة توقع ردود أفعال عناصرها( متباينة الانفعال), فما بالك لو التقي بالاحتشاد( جمعان متنافران)؟ وثق بأن الملتحي المفعم حماسة في غمار الأحداث لا يعنيه ذلك الدستور الذي يبذل أمامك اليوم الغالي والنفيس من أجله, وإنما ما يعنيه في باطن عقله هو تلك الانتخابات البرلمانية التي ستتحتم بعد نجاح الاستفتاء عليه; والتي يراها خطوة وحيدة متبقية علي طريق( طرح) تطبيق الشريعة التي لا يري في سواها دستورا و مرفأ( للأمان), وإلا فبماذا تفسر أنت رفع شعار( تطبيق شرع الله) في الوقت الذي لم يأت فيه ذكر( صريح) لهذا التطبيق في أي من مواد الدستور المتحارب عليه؟ و من ثم, فإنه يري في اعتراضك علي الاستفتاء اعتراض منطقي علي تطبيق الشريعة التي ينشدها, و إن لم يفصح!! و ثق بأن انتصار الملتحين علي هذا العنبف النحو الذي رأيناه علي الشاشات هو انتصار نكس رايات الإسلاميين في أعين( غير المسلمين) و(المسلمين) لسنوات أيا كانت الأسباب!! و ثق وأنت تلتقط حجرا من الأرض بغية أن تقذف به من يخالفك في الرأي بأنك شخص بدائي سواء في سلسلة( النشوء والارتقاء) أو في سلالة كرمها الله و جعلها( خليفة) له في الأرض; مهما اغتسلت بأجود المساحيق أو ارتديت أفخم الثياب أو تحدثت بأفصح الكلام; فقذف الأحجار من شيم القرود سيدي حين الغضب وليس البشر!! و ثق بأن العنف في جميع مظاهره لم يكن يوما دليلا علي شجاعة أو بأس أبدا إلا في أعين الساذجين( من العوام), وإنما العنف دليل علي فرط الشعور بالخوف, وكلما ازداد مقدار المبالغة في العنف, كان ذلك دليلا علي شعور مبالغ فيه بالخوف أيضا, و الخوف ضعف!! و ثق بأننا لا زلنا( جميعا) هواة في( ملاعب) الديمقراطية; وأن للهاوي أعذاره دائما التي لا يليق( للمحترقين) أن ينكرونها عليه, وإلا صاروا هم أيضا( هواة)!! وثق بأن الذي يلوم الطرف الآخر في إصراره علي عدم التراجع ولو لخطوة من أجل إيجاد مخرج لأزمة ما, هو أول من وجب عليه أن يتراجع بنفس القدر إذا ما اتخذ الآخر هذه الخطوة, دونما تعجيز له أو مساس بماء الوجه.. وتلك من شيم الكبار!! ثم ثق بأن99 بالمائة من المصريين, بمن فيهم الحاصلين علي شهادات عليا, لا يفهمون اللغة العربية( شديدة الفصاحة) التي يتباري بها الخطباء والمحاورون حين مخاطبة الناس في وقت الأزمات سواء علي المنابر( الرسمية) أو الشاشات أو حتي في خطبة الجمعة!! فلا تلومن الناس!! المزيد من مقالات أشرف عبد المنعم