لمن لايعلم, محاضرات جون ريث هي واحدة من أرفع الأحداث الثقافية السنوية التي تجذب إليها المثقفين والمفكرين في مختلف أنحاء العالم. سلسلة من ثلاث أو اربع محاضرات تنظمها هيئة الإذاعة البريطانية منذ عام 1948 إحياء لذكري مؤسسها العظيم جون ريث. حاضر فيها كبار الفلاسفة والمؤرخين والاقتصاديين من مختلف أنحاء العالم. في صيف هذا العام وبينما كان إعلام مصر مشغولا ببطولات أو جرائم الحمبولي ونخنوخ كان المؤرخ الاقتصادي نيال فيرجسون أستاذ التاريخ بجامعة هارفارد قد توقف كثيرا عند مصر في محاضرته الأولي القفير الإنسانيTheHumanHive وهو تعبير استعاره من قصيدة كتبها الشاعر الإنجليزي برنارد ماندفيل في أوائل القرن الثامن عشر عما تقدمه خلية النحل من عبرة للإنسان. والفكرة الرئيسية من تلك القصيدة هي أن المجتمعات التي تمتلك مؤسسات صحيحة تخضع لحكم القانون, يمكن أن تزدهر حتي لو أخطأ بعض أفرادها. فعالم النحل هو في الحقيقة عالم من الأدوار المحددة والمؤسسات الفاعلة. يتوقف فيرجسون عند المقارنة بين مصر وبريطانيا في أواخر القرن السابع عشر التي ذكرها مؤلفا كتاب رائع هو لماذا تفشل الأمم. فلماذا كانت انجلترا أغني ولماذا تطورت وتخلفت مصر. اللحظة الحاسمة في تاريخ التطور والتخلف في البلدين هي اللحظة التي حقق فيها الإنجليز عام1688 ماحاربوا من أجله طويلا وهو أن تخضع سطوة الملك لسلطان البرلمان. عند ذلك فقط حدث التحول في السياسة والاقتصاد حين حصل الناس علي المزيد من الحقوق السياسية فاستخدموها لاكتشاف المزيد والمزيد من الفرص الاقتصادية. ظهرت المؤسسات ودولة القانون التي انتظمت جهود الإنجليز في كل المجالات وأصبحت أكثر اهتماما بالإدخار والاستثمار والإبداع, وهي التي حولت إنجلترا إلي بريطانيا العظمي.أما في مصر فلم تأت هذه اللحظة أبدا. كان بمقدورها أن تفلت من قبضة الفقر وسلطان التخلف مرات ومرات. قامت بها الثورات ولكن الأمر في كل ثورة كان يتوقف عند ذهاب طغمة حاكمة ووصول أخري بينما البنية الأساسية للمجتمع المصري علي حالها ترزح في كل مرة تحت طغيان حاكم جديد لتبقي مصر فقيرة. نحن باختصار أقل شأنا من قفير النحل. منذ ثلاثة عقود كان الفرد الأمريكي أغني باثنتين وعشرين مرة من نظيره الصيني. الآن تقلصت الفجوة لتصبح خمس مرات فقط والفجوة مرشحة للمزيد من التقلص وفق توقعات صندوق النقد الدولي بأن يتفوق حجم الناتج القومي الصيني علي نظيره الأمريكي في غضون أربعة أعوام. والعقود الخمسة الماضية انتزعت من براثن الفقر في كل أنحاء العالم ما يقرب من مليار إنسان فيما زادتنا تلك العقود في مصر فقرا علي فقر. المشكلة, كما يراها فيرجسون, في التنظيم الإنساني أو المؤسسات التي هي إما مؤسسات مغلقة ضيقة الأفق تحكمها حكومات علي غير رغبة شعوبها تخضع فيها العلاقات الاجتماعية لقوي لاتسمح بالمساواة أمام القانون, وإما مؤسسات مفتوحة واسعة الأفق قادرة علي تحقيق نمو اقتصادي سريع وعلاقات اجتماعية تخضع لحكم القانون. كانت أوروبا وفي المقدمة منها انجلترا هي أول من انتقل من مؤسسات الأفق المحدود إلي مؤسسات الأفق المفتوح. في تفسير الفقر المصري ذهب الدارسون مذاهب شتي فمنهم من يراه قابعا في جغرافية مصر حيث الأرض في معظمها صحراء شديدة القسوة تعاني نقصا في المياه وتربة ومناخا لايصلحان لزراعة غنية وافرة. ومنهم من يري الأسباب في ثقافة المصريين ونقص أخلاقيات العمل المنتج وهي ثقافة لاتصنع نجاحا اقتصاديا. ويري فريق ثالث أن الأسباب كامنة فيمن حكموا مصر فرتبوا أوضاعها بما يخدم مصالحهم وليس أبدا مصالح شعبها. ويري المؤلفان أن أسباب الفقر في مصر هي نفسها أسباب الفقر في أي مكان في العالم فهي جميعها أسباب سياسية. والحقيقة أن فقر مصر مثل الظواهر الاجتماعية الكبري لايمكن تفسيرها بمجموعة متجانسة من الأسباب. فالجغرافيا المصرية ليست أشد قسوة من الجغرافيا اليابانية. والتسلط السياسي المصري لم يكن أشد وطأة من تسلط الحزب الشيوعي الصيني علي أسرع اقتصادات العالم نموا في العصر الحديث. وليست ثقافتنا السائدة هي الأسوأ عالميا. من المؤكد أن كل عامل من تلك العوامل أسهم بنصيب في استدامة الفقر في بر مصر. المزيد من مقالات د. حمدي حسن أبوالعينين