كتب:مكاوي سعيد: طيلة ستة أيام في مدينة لندن, لم يحدث أن سمعت ليلا أو نهارا صوت فرامل أو كلاكس سيارة, إلا عند عودتنا أنا والكاتب الكبير بهاء طاهر عقب دعوة للعشاء للوفد المصري في منزل السفير. احتفالا بمناسبة أن العرب في تلك السنة كانوا ضيف شرف معرض لندن الدولي للكتاب وبعد الحفل أمر السفير سائقه بإيصالنا إلي الفندق, الوقت كان ليلا, والطريق يكاد يخلو من السيارات, سائق سيارة السفير مصري ويده كل فترة تلعب في الكلاكس دون داع, وبمجرد أن أنزلنا في المنحدر الذي يوصلنا إلي باب الفندق, أخبرته بتلك الملحوظة, فابتسم وقال إن الطبع غلاب, عذرته وكنت أظنه سائقا عاديا بمؤهل متوسط, ثم اكتشفت أنه من خريجي كلية الاقتصاد والعلوم السياسية وتقديره العام جيد! الفندق في قلب لندن وموقعه بالقرب من حديقة الهايد بارك أشهر ساحة للحرية في العالم, والمميزة بخطبائها المجهولين وبأعلي سقف حريات في الدنيا, وكانت مساحة الفندق صغيرة وطوابقه لا تتعدي التسعة, وأغلب ضيوف المهرجان من الكتاب والنقاد العرب كانوا يقيمون به آنذاك, وكأغلب الأمكنة العامة في إنجلترا وسائر دول أوروبا غير مسموح بالتدخين داخله, لذلك في الصباح الباكر, قبل أن تصل السيارات التي ستقلنا إلي مكان معرض الكتاب, كان المدخنون يخرجون من صالة الفندق, ليقفوا في البرد القارس بالقرب من الباب حتي يدخنوا سجائرهم بعجالة, ثم يعودوا بسرعة إلي الدفء بالداخل, وأمام الباب كان يقف حارس الأمن بلباسه التقليدي القلنسوة العالية والسترة والبنطلون الذي يشبه الجندي الإمبراطوري القديم كما كنا نراه في الأفلام.. كان يتحرك للأمام ثم يعود إلي الخلف في توقيت محسوب, وكان علي يمين المدخنين حاجزا من الطوب فارغا من أعلاه ومزروع فيه نباتات جميلة.. وأمامهم علي بعد متر واحد طفاية سجائر عمودية, ولأننا كلنا في الهم شرق, المدخنون المصريون والعرب كانوا يتصرفون كالآتي.. بعد انتهاء سجائرهم يدفسونها في حوض النباتات الذي بجوارهم, ثم يبدءون في إشعال سيجارة أخري لأنهم محرومون من التدخين طيلة الليل وكان الحارس بمجرد أن يلقي أحدهم بالسيجارة, يتحرك بنفس إيقاعه البطئ, ثم يمسك عقب السيجارة بأطراف أصابعه التي بداخل القفاز بقرف, وكأنه يمسك بقذارة, ويضعه بحرص في الطفاية, دون أن يبدي تذمرا أو تعليقا أو استهجانا, حتي لو تكرر ذلك عشرات المرات, وكان المدخنون يبتسمون وهم يومئون تجاهه-من خلف ظهره- بخبث, ثم يتعمدون إشعال سجائر أخري وإطفاءها بنفس الطريقة, دونما إحساس بفداحة ما يفعلون! تري ماذا يقول هذا الحارس اللطيف عنا لزوجته وهو يسامرها في المساء؟ في نفس هذه السفرة وقبل المغادرة بيوم, ذهبت مع بعض زملائي للتسوق, وأعجبني قميص, فوضعته في خطة الشراء وأنا أنتقل إلي جناح تال, ثم انتقيت بعض الأغراض الأخري, من الطابق نفسه التابع لمركز التسوق, وهناك رأيت نفس القميص بسعر أقل من سعر القميص الأول, سحبت القميصين إلي مدير هذا القسم متسائلا عن سبب هذا الفرق, وهل هو ناتج عن عيب ما في القميص, أم لإختلاف في نوعية الخامة, لكنه أكد لي أن القميصين متطابقان, ثم أخبرني بأن سبب اختلاف السعر, يرجع إلي أن قميصا منهما كان من معروضات مركز التسوق قبل أن يرتفع السعر, لذا بقي بنفس سعره القديم, أخدت طبعا القميص ذا السعر المنخفض, وأنا أفكر في حال أصحاب المحلات بشرقنا الأوسط, الذين بمجرد سماعهم إشاعات عن ارتفاع سلعة ما, يخفونها فورا, حتي يعتمد السعر الجديد, كي يربحوا من بيعها ربحا غير حلال. اكتشفت أيضا وأنا في سبيلي لمغادرة هذا الفندق, أنه أحد الملكيات المتعددة للسيد رفعت الأسد شقيق الرئيس السابق حافظ الأسد في لندن, وللعلم رفعت الأسد هذا, غادر سوريا عام1984 بعد أن حصل من أخيه حافظ الأسد علي14 مليون دولار( من دم الشعب السوري) لكي يخلو له الجو ولا ينازعه في الحكم, وقد دفع منها السيد رفعت الأسد خمسة ملايين من الدولارات, كي يشارك في بناء نفق أسفل بحر المانش بين فرنساوإنجلترا, وبذلك حصل علي الجنسية الفرنسية. يقولون إن الشرق يتميز بالكرم الحاتمي وحسن الضيافة ومقولات كثيرة من هذا القبيل, لكن تأمل ماذا يفعلون في الغرب لاستضافة عابري السبيل.. في أغلب المقاهي والمشارب ستجد خلف الساقي, رفا خشبيا أو معدنيا, عليه علبة مميزة أو مج أو كوب وعندما تشرب مشروبك وتدفع, لو كان معك فائض مالي, ستعطيه للساقي كي يضعه في العلبة, وهذا معناه أنك تدعو شخصا لا تعرفه علي مشروب قهوة أو بيرة أو خلافه.. فمن المتعارف عليه أن أي عابر سبيل ليس معه نقود كي يدفع ثمن مشروبه, كل ما عليه أن يدخل إلي أحد هذه الأمكنة, ويجلس أمام الساقي ثم يشير تجاه العلبة بدون كلام, وما علي الساقي إلا أن يمد يده داخل العلبة, ويأخذ ثمن المشروب أو الكوبون الذي تركه الزبون الكريم, ثم يقدم المشروب إلي عابر السبيل وعلي وجهه ابتسامة ترحيب. تأمل هذه اللفتة الحكيمة.. دعاك شخص لا تعرفه-وقد لا يكون من نفس جنسيتك أو دينك أو عرقك- إلي مشروب, دون أن يمن عليك, لأنه لن يراك وأنت تحتسيه. وأنت لن تعرفه, ولن تجد نفسك مضطرا لشكره... وهناك أمثلة كثيرة من هذا القبيل, وسؤال يحيرني كثيرا, لماذا اختص الله سبحانه وتعالي.. منطقة الشرق الأوسط بالأنبياء والرسل دون سائر بقاع الدنيا ؟ [email protected]