لم يراوح الخطاب الديني في الصحف المصرية مكانه منذ أكثر من مائة عام, فالجدل والنقاش العام لا يزال يدور حول قضايا بعينها, كعلاقة الإسلام بالمدنية وما يتعلق بتطبيق الشوري. ولأي مدي تقترب أو تبتعد عن وسائل الديمقراطية الغربية, وقضايا تحرير المرأة, وتجديد الفكر الإسلامي وإصلاح المؤسسات الدينية, وانتماء مصر بين الاتجاه الوطني والاتجاه القومي والاتجاه الإسلامي, والعلاقة بالآخر المختلف دينيا وثقافيا. هذا ما يؤكده كتاب صدر حديثا للزميل الدكتور محمد يونس الصحفي بالأهرام, عن دار الكتب والوثائق القومية المصرية ضمن سلسلة مصر النهضة بعنوان الخطاب الديني في الصحف المصرية1882..-1914 والذي يحمل تحليلا عميقا لعدد من القضايا الدينية التي طرحت في الصحف المصرية منذ الاحتلال البريطاني لمصر وحتي الحرب العالمية الأولي. وشهدت هذه الفترة بروز مدرسة الإحياء والتجديد الإسلامي التي قادها جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده, حيث تزايد دور الدين في المجتمع أو بمعني آخر اتجه هذا الدور إلي الحجم الذي كان يشغله في الفكر الإسلامي قبل عصور التراجع الحضاري.فذلك القرن شهد تحديات خارجية تمثلت في الغزوة الاستعمارية للبلدان الإسلامية,وقد استدعت هذه الظروف تجديد الفكر الإسلامي ليستجيب لها, وليتواءم مع حشد الطاقات لمقاومة التوغل الأجنبي الاقتصادي والسياسي الثقافي. ويوضح أهمية إعادة قراءة هذا الخطاب اليوم حيث يتزايد دور المرجعيات الدينية في الحياة العامة بخاصة بعد تفاعلات الحراك العربي في تونس ومصر وعدد من الدول الأخري وما ترتب عليه من ظهور أحزاب سياسية ذات مرجعيات دينية, ناهيك عن تزايد الاهتمام بدراسة العلاقة بين الدين والحياة العامة, ليس في مصر وحدها بل في العالم أجمع. كما اهتم المؤلف بدور وتأثير الخطاب الديني في حركة الإصلاح وتجديد الفكر الإسلامي وما يتصل بذلك من إصلاح الأزهر وقضية الاجتهاد. كذلك أفرد المؤلف فصلا مهما لدراسة ما طرحه الخطاب الديني حول مفهوم الوطنية المصرية أو الجامعة الوطنية وما يتصل بها من قضية الوحدة الوطنية, وأكمل الصورة بإضاءة موقفه من دعاة الرابطة أو الجامعة الإسلامية وما اتصل به من علاقة مصر بالدولة العثمانية, كما خصص فصلا لدراسة موقف الخطاب الديني من العلاقة بالآخر وحضارته, فتناول صورة الإسلام في نظر الغرب, ثم موقف هذا الخطاب من نموذج الغرب الحضاري. ويرصد الكتاب وجود أكثر من خطاب ديني طرحته الصحف حول عدد من القضايا المثارة علي الساحة المصرية في المجالات السياسية والاجتماعية والدينية, والثقافية. ويوضح أن الأطروحات التي قدمها كل خطاب ديني, قد تباينت وفقا للخط الفكري الذي تنتمي إليه الصحيفة. واعتمد المؤلف في تحليله الخطاب الديني علي أبرز خمس صحف صدرت في مصر خلال فترة الدراسة,مثلت أهم التيارات الفكرية والسياسية والدينية التي كانت سائدة آنذاك وهي صحف: الأهرام والمؤيد والمنار واللواء والجريدة. وأوضح الكتاب أن جميع صحف الدراسة اتفقت في الهجوم علي الاستبداد, فبعد فشل الثورة العرابية التي قامت أصلا لمواجهة استبداد الخديو, وانتهت بالاحتلال البريطاني لمصر, حدث ارتباط في العقل المصري- بين حدوث هذه الثورة والاحتلال البريطاني, وبناء علي ذلك ظهرت دعوة في بعض الصحف المصرية تقول إن استبداد الخديو لأفضل ألف مرة من استبداد المحتلوروجت بعض الصحف لفكرة المستبد العادل. وقد رفضت كل من الأهرام والجريدة هذه الفكرة علي أساس استحالة الجمع بين العدل والاستبداد. وكشف الكتاب أن صحيفة الأهرام قد عرضت أطروحتين أساسيتين في خطابها الديني ذي الطابع السياسي, الأولي هي الهجوم علي الاستبداد, والثانية هي الدعوة إلي الشوري في الحكم باعتبار أنها من طبيعة الإنسان.فضلا عن مطالبة الأهرام بالمجلس النيابي والدستور. فقد أكدت الأهرام أن الاستبداد سبب تخلف الشرقيين موضحة أن انحطاط الشرق قد بدأ باستبداد الحكام حتي قتل العلم.. وخيم الجهل.. وأخرجت أصول الدين عن أحكامها عند المسلمين والنصاري علي السواء, لتصير تلك الأديان آلة في يد الحاكم يستعبد بها المحكوم, وعدة في أيدي شيوخ الدين يخلبون بها عقول الشعب وقد رفضت الأهرام بشدة فكرة المستبد العادل, فهاجمت قول المقطم ان اصلح حكم في العالم هو الاستبداد, علي شرط أن يكون الحاكم المستبد متصفا بالفضائل كالعقل والحلم والعدل والعلم والأقدام و الاعتدال وحب الإصلاح وحسن التدبير واستبعدت الأهرام إمكانية وجود هذه النوعية من البشر التي توافر فيها كل هذه الصفات: فلم يقل لنا المقطم أين يوجد هذا الرجل الذي تخرجه صفاته عن سائر بني الإنسان وتجعله في مراتب الآلهة أو بالأقل في مراتب الأنبياء وكشف الكتاب أن الدور المزدوج الذي لعبه( الآخر) وهو هنا الغرب, انعكس علي نوعية الأطروحات التي عرضتها الصحف في خطابها الديني حول كيفية التعامل معه, فالغرب في فترة الدراسة, وربما بعدها, لعب دوري المعلم والعدو معا; فهو صاحب الحضارة المسيطرة التي ترفع لواء العلم والحرية, والغرب في الوقت نفسه هو المحتل لمصر ولكثير من البلدان العربية والإسلامية, والطامع في ثرواتها. مما جعل الخطاب الديني حول العلاقة بالآخر يغلب عليه الطابع الدفاعي. وتباينت الزوايا التي نظرت من خلالها صحف الدراسة لكيفية التعامل مع معطيات الحضارة الغربية, فقد ركزت كل من الأهرام والجريدة علي الدعوة إلي الأخذ بالوسائل التي سلكها الغرب في التقدم باعتباره النموذج الأمثل في النهضة, فالغربي هو معلمنا في كل حال علي حد قول الأهرام وإن كانت الصحيفتان قد رفضتا تقليد الغرب في الجوانب السلبية. في حين كشفت غالبية صحف الدراسة عن الطمع الغربي في العالم الإسلامي,وإن اختلفت حول الأساليب التي تراها لمقاومته, وقد تأثر خطابها الديني في هذا الصدد بالخط الفكري والانتماء الحزبي.