أورهان باموق, روائي تركي مثير للجدل السياسي والفكري, وعندما فاز بجائزة نوبل للأدب عام2006, كان مشتبكا في غمار قضية سياسية شائكة أورهان باموق, روائي تركي مثير للجدل السياسي والفكري, وعندما فاز بجائزة نوبل للأدب عام 2006, كان مشتبكا في غمار قضية سياسية شائكة, وكان قاب قوسين أو أدني من الزج به في السجن بتهمة خطيرة هي إهانة الدولة التركية, لكن المحكمة برأته. فقد أدلي بحديث لصحيفة سويسرية ذكر فيه أن نحو مليون أرمني قد قتلوا في تركيا, إبان الحرب العالمية الأولي, وهي مسألة يعد الكلام فيها من المحرمات السياسية, لكن باموق قرر أن يتكلم ليخرق الصمت الذي التزم به الجميع. ومن المؤكد أنه لم يكن غافلا عما قد يلحق به من أضرار جسيمة, عندما يفجر المسألة الأرمنية المسكوت عنها, وليس أدل علي ذلك من قوله عام2004, لقد بدأت التورط في حرب سياسية ضد المؤسسة التركية. ولعله كان يعني أن صمته السياسي الطويل قد حان وقت نهايته, ذلك أنه عندما شرع في نشر رواياته تعمد ألا تتطرق موضوعاتها إلي أي قضايا سياسية, وكان يركز حبكة رواياته حول تأرجح الهوية التركية بين الشرق والغرب. وهذا ما تشير إليه رواياته الست الأولي, ومنها الرواية الأولي جودت بك وأولاده (1982), والثانية البيت الصامت (1983). وقد فاجأت دار نشر أمريكية مرموقة القراء في أكتوبر2012 بنشر أول ترجمة باللغة الإنجليزية للبيت الصامت واحتفت بها الدوائر الثقافية, فهي تكشف التجليات الأدبية الأولي ل أورهان باموق. وتبرز وقائع الرواية جانبا من حالة تأرجح الهوية التركية بين الشرق والغرب, منذ خلعت عباءة الخلافة الإسلامية, واتجه بها كمال أتاتورك نحو أوروبا والغرب, عقب الهزيمة التي منيت بها الإمبراطورية العثمانية في الحرب العالمية الأولي. وتتناول الرواية زيارة الأحفاد في إجازة الصيف لجدتهم فاطمة التي تبلغ التسعين عاما, وهي تعيش في منزل العائلة بالقرب من البحر, وعلي حين أن الزيارة تعني لم شمل العائلة, إلا أنها تكشف عكس ذلك, فقد كان كل فرد وكأنه يعيش في عالمه الخاص, بينما تتباين توجهات وطموحات كل فرد من أفراد الأسرة. فقد بدت الجدة وكأنها لاتزال تخوض معارك شرسة ضد زوجها الدكتور, رغم أنه مات منذ سنوات طوال, فلاتزال تحنق عليه بسبب ما كان يعرب عنه من وجهات نظر سياسية أو دينية لم ترق لها. وتعيش الجدة مع رجب, وهو ابن زوجها من سيدة أخري, وهو قزم في نحو الخامسة والخمسين, ويتولي خدمتها, وتدب الحياة في البيت الصامت, عندما يأتي الأحفاد, ويبدو حسن الطالب بالمدرسة الثانوية قلقا وساخطا علي الحياة من حوله, وتشير الأحداث إلي أنه قد يغدو صيدا سهلا يتم تجنيده في عضوية الجماعات القومية المتطرفة. أما فاروق, وهو مؤرخ تعيس في حياته, وفشل في زواجه, بينما كانت شقيقته الجميلة والمرحة نيجلين تهتم بقراءة صحيفة يسارية, وأضحت محل اهتمام حسن, لكنها لم تعره اهتماما, وكان شقيقهما الصغير ميتين يحلم بالرحيل إلي أمريكا سعيا وراء الثروة. واهتم فاروق, بارتياد المكتبة المحلية, للاطلاع في أرشيفها علي أحداث تاريخية, ذكرته بالدافع الذي حدا به لأن يكون مؤرخا, أما نيجلين فكانت تمضي كل صباح علي الشاطئ, كما كانت تصطحب الجدة فاطمة لزيارة المقابر. {{{ ويوحي لك باموق أن أحداث الرواية جرت قبل وقت قصير من الانفلات العسكري الذي مكن الجنرالات من الاستيلاء علي السلطة في تركيا عام.1980 وهنا نلاحظ أن باموق بدأ في نشر رواياته عام1982, أي في أوج هيمنة الجنرالات علي الحياة في تركيا, وهذا ما جعله ينأي بنفسه عن تأليف روايات سياسية, وقد فسر ذلك في حوار أجراه مع صحيفة لوموند الفرنسية في مايو2006, بقوله: كنت أدرك أنني لو اقترفت خطأ تأليف روايات سياسية, لكان مصيري الهلاك, ولكان النظام قد قضي علي. وظل أورهان باموق يتوجس خيفة, من تأليف رواية سياسية, خمسة وعشرين عاما, وأخيرا تجاسر في عام2004 ونشر ثلج, وهي رواية سياسية بامتياز, وتعد الرواية السابعة في قائمة إبداعاته, وتتناول في وضوح وجلاء التيارات والقوي السياسية والدينية الفاعلة والمؤثرة في المشهد السياسي التركي, وهي القوي الديمقراطية والعلمانية, والقوي الإسلامية, ويشير عبر شخصيات الرواية وأحداثها إلي تباين توجهات هذه القوي فيما يتعلق بتحديد مسار تركيا ومصيرها. وهنا قد يمكن القول إن المعني الجوهري لهذه الرواية السياسية, كان ماثلا وحاضرا في رواياته غير السياسية, ألا وهو تأرجح الهوية التركية بشدة بين الشرق والغرب, وكان يفصح عن ذلك المعني المحوري من خلال كتاباته الدائبة عن مدينة اسطنبول. وهذا ما ركزت عليه حيثيات فوزه بجائزة نوبل للأدب عام2006, فقد تضمنت تلك الحيثيات أن أورهان باموق استحق الجائزة لبحثه عن الروح الحزينة لمدينة اسطنبول, وكشفه عن رموز جديدة للصراع بين الثقافات والتشابك الحضاري. ودرءا للالتباس, فليس المقصود بالصراع بين الثقافات, ذلك المعني الذي روج له المفكر الأمريكي صامويل هنتنجتون, عندما نشر مقاله صراع الثقافات والحضارات عام1993, وخلص فيه إلي أن الصراع القادم هو الصراع بين الإسلام والغرب, وبين( الكنفشيوسية) في الصين وآسيا والغرب. أما الصراع بين الثقافات في السياق الروائي لباموق, فهو تأرجح تركيا بين الثقافة الشرقية والثقافة الغربية الوافدة التي استدعاها كمال أتاتورك, وفتح لها أبواب البلاد. وما يتعين ذكره في هذا الصدد أن باموق يري أن الشرق والغرب وجهان لحضارة إنسانية واحدة, ويدعو تركيا إلي الاعتصام بثقافتها الشرقية وعدم التخلي عنها. {{{ وكان أورهان باموق قد ولد في اسطنبول عام1952 في أسرة ميسورة, فوالده كان مهندسا من كبار رجال الصناعة والأعمال, وكان يحث أورهان للالتحاق بكلية الهندسة حتي يصبح مهندسا معماريا, لكنه لم يستطع الاستمرار في دراسة الهندسة, وانقطع عن الدراسة وتفرغ لتأليف الروايات. وسطعت شهرته عندما نشر رواية اسمي أحمر عام1998, فقد تمت ترجمتها إلي24 لغة أجنبية, وفازت بجائزة أدبية أوروبية رفيعة. ويشير باموق إلي أنه كان يحلم سرا بأن يكون كاتبا حرا.. وأحسب أنه حقق حلمه, ولم يعد البيت صامتا. المزيد من أعمدة محمد عيسي الشرقاوي