كتب- سامح كريم: هل يمكن أن تقدم الحياة الزوجية التي تستمر ما يقرب من الستين عاما عملا أدبيا راقيا للحياة الثقافية؟ والإجابة من الممكن, والدليل هذا الكتاب وعنوانه معك لمؤلفته الراحلة سوزان قرينة الدكتور طه حسين عن حياتها معه, والذي نعيش مع صفحاته أياما في ذكري رحيل طه حسين التاسعة والثلاثين في مثل هذا اليوم من عام.1973 صحيح أن عنوان الكتاب هو معك وإن كنت أتصوره لو كان دقات قلب طه حسين لما اشتمل من صفحات تعبر عن أجمل مشاعر الزوجة وأرق أحاسيسها عبر حياة لم تكن كلها نعيما وصفوا, بقدر ما كانت معاناة ومتاعب, بسبب ما اكتنفهامن تحديات ومخاطر وصعوبات, صنعتها طبيعة عمل الزوج كأستاذ في جامعة حكومية كانت تتلمس طريقها إلي ترسيخ الحياة العلمية بمصر, وأديب وناقد في مجتمع تتجاذبه العواصف والأنواء السياسية والاجتماعية. وصحيح أن الزوج طه حسين كان يكن لهذه الزوجة كل صور المودة والمحبة, الاعتراف بالفضل والجميل. والدليل ما سجله في رائعته الأيام حين سبق لسانه تفكيره, فتحول الحديث عنها للمرة الأولي في الأيام من صيغة الغائب إلي صيغة المتكلم حيث أملي في آخر صفحة من الجزء الأول من أيامه مخاطبا ابنتهما أمينة: لقد حنا يا ابنتي هذا الملك علي أبيك فبدله من البؤس نعيما, ومن اليأس أملا, ومن الفقر غني, ومن الشقاء سعادة وصفوا. وصحيح أيضا أن مشاعر الزوجة سوزان كانت علي هذا النحو, حيث تحول العلم في يدها إلي قلب ينبض بأجمل العواطف وأرق الأحاسيس, ذلك لأن القارئ لصفحات كتابها يتوحد مع ذوب قلبها المكلوم, وأنات ألمها المكتوم, وخلاصة أيامها التي تتقاطر في صفحات وسطور, وحقيقة وجودها الذي يتعثر في كلمات وحروف. وأما عن هذا الكتاب الذي ألفته هذه الزوجة بعد أن عبرت بحار الأحزان المضطربة, إلي شواطئ الآلام الممتدة.. وصفحاته تشي بالكثير غير المعروف عن حياة دامت واتصلت حتي يمكن اعتباره من المؤلفات المهمة بالنسبة لقارئ طه حسين حياة وأعمالا ومواقف, وأن صفحاته التي تنشر لأول مرة عن سيرة حياة كاتب كبير, سطر لنفسه وللعربية كتابا ضخما هو الأيام.. تعتبر مكملة لهذه الأيام, حيث سجلت الكثير من الوقائع والأحداث التي لم يذكرها طه حسين في أيامه, وكأن هذه الصفحات أيام سقطت من الأيام. يضاف إلي ذلك أمران أولهما أن هناك من يريد التعرف علي هذه الإنسانة التي اختارها طه حسين شريكة لحياة دامت واستمرت ما يقرب من الستة عقود وكان مستطيعا بها وفي هذا دراسة لجانب خاص جدا لحياة طه حسين وثاني الأمرين هو أهمية هذا الكتاب حيث يصلح مرجعا للباحث الأجنبي. فلاشك أن لهذه الزوجة تقديرا صنعته لها الأقدار بعد اقترانها بطه حسين. وهو ما نشرته مجلة الانفرمسيون الفرنسية في غضون عام1950 بعد أن أصبح الزوج من أشهر وزراء مصر فقالت عنها: إنها المرأة الوحيدة التي تخدم أمة أي فرنسا لا في مصر وحدها بل في الشرق الأوسط كله بسبب مكانة زوجها هل نحن في حاجة إلي بعض الأمثلة التي تدور حول ما كتبته عن أيامها مع طه حسين حتي آخر لحظة من حياته. لقد كتبت عن هذه اللحظة: بقيت مع جثمانه وحدي نصف ساعة كاملة, قلت لنفسي وأنا معه وحيدة. ابني لم يصل بعد, وبنتي مازالت في الطريق من أمريكا إلي القاهرة.. وهمست ألم نبدأ الحياة وحيدين, وها نحن الآن ننهيها وحيدين. وفي أول عيد زواج بعد رحيل الزوج في9 يونيو1974, كتبت عبارات طويلة بدأتها بكلمة: أنا وحيدة لأول مرة.. بكيت كثيرا, وحمدت الله كثيرا الذي قضت مشيئته هذا الزواج الذي كفل لي القوة والحنان والمحبة, وهي معان عشت في حماها ما يقرب من الستين عاما.. الآن أحس إحساسا عميقا بقيمة ما فقدت.. قيمة الإنسان الذي عشت معه تحت سقف واحد. وكتبت: كنت أحس أنه يراني علي الرغم من أنني لا أستطيع أن أتجاهل آفته كحقيقة.. كان يتمتع بقدرات خارقة قد لا يصل إليها إنسان مبصر.. ويمكن تتبع ذلك من وصفه للناس والأشياء في بعض كتبه كالأيام, وشجرة البؤس, وجنة الشوك. وعن النصائح التي ينبغي أن تبديها لزوجات المبدعين والمفكرين كتبت: لا أحب النصح وأفضل عرض تجربتي مع طه.. كنت أؤمن بمبادئه وآرائه وأقف وراء ذلك بكل ما أوتيت من عزم وجهد, وكثيرا ما تذرعت بالصبر حيال ما كان يواجهنا من أزمات.. كنت أجتهد في أن أكون علي مستوي المسئولية التي اختارتني لها الأقدار, حيث توسمت فيه أنه واحد من أصحاب الرسالات الذين تواجههم المتاعب والمشاق. وعن أول لقاء بينهما: كان في الثاني عشر من مايو عام1915 في مونبلييه.. لم يكن ثمة شئ ينبئني بأن مصيري كان يتقرر, ولم يكن بوسع والدتي التي كانت بصحبتي أن تتصور ذلك. أصابتني حيرة مباغتة, إذ لم يسبق لي في حياتي أن تكلمت مع أعمي. لكن لعل القدر كان قد أصدر قراره. وكتبت عن يوم حصوله علي الدكتوراة: بدأنا ذلك العمل الجاد من أجل إتمام رسالته حتي عام1918 وانتهينا منها ليقف طه أمام لجنة المناقشة من كبار العلماء يدافع عن رسالته بألمعية. فنال تهنئة اللجنة وإعجاب الحاضرين. وعن آخر سفر معه إلي أوروبا كتبت: كان إلي مدينة ميرانو في أغسطس عام..1973 قبل رحيله بشهرين.. كان قليل الكلام, قليل الغذاء, مما زادنا قلقا عليه, وحزنا دفينا لدي وحدي. ولا أعلم وقتها هل كانت هذه الحالة هي بداية النهاية التي لا يعلمها إلا الله!! وعن اختياره وزيرا للمعارف عام.1950 لم نكن نتوقع أن يصبح طه وزيرا. فقد كنا نري دوما أن ثمة موانع حاسمة تقف عقبة أمام ذلك. بسبب عاهته, وأفكاره الجريئة ورأيه المستقل الحاسم.. وعن فوزه بجائزة حقوق الإنسان وهو علي سرير الموت كتبت: قبل ساعات من رحيله وصلتنا برقية من الأممالمتحدة معلنة فوزه وانتظاره في نيويورك في العاشر من ديسمبر1973 لتسلمها.. قرأنا البرقية مرات لكنه لم يعلق سوي بإشارة من يده كنت أعرفها هي: وأي أهمية لذلك! وعن معاملة الناس لها بعد رحيله كتبت: وجدت التقدير والاحترام وإذا ما عرفوا أنني حرم طه حسين تبدو منهم نظرة إعزاز وتقدير.. تعبر عن إعجابهم بالإنسان الذي أحمل اسمه.. رحم الله طه حسين الذي حرص علي إتمام هذا رغم الرفض والاعتراض وظل وفيا له ما يقرب من الستين عاما.