ليس من قبيل الصدفة أن يمهد مؤسس علم الاقتصاد الحديث آدم سميث لكتابه عن ثروة الأمم, بكتاب سابق له عن نظرية الشعور الأخلاقي يتحدث فيه إلي جانب أمور أخري عن القيم الأخلاقية والنوازع البشرية. وقد كانت الفكرة المحورية عند سميث هي أن السوق توظف المصلحة الخاصة لتحقيق المصلحة العامة, ومن هنا عبارته المشهورة عن اليد الخفية. فعندما يسعي المنتج لتحقيق مصلحته الخاصة, فإنه يعمل دون أن يدري لتحقيق المصلحة العامة. ولكن المصلحة الخاصة وحدها لا تكفي, ونجاح الاقتصاد يتطلب الكثير من المباديء الأخلاقية. فالتاجر حتي ينجح لابد وأن يكون أمينا في علاقاته مع مورديه ومع زبائنه. وإذا فقد ثقة الآخرين فيه بارت تجارته, وأصدر حكما علي نفسه بالخراب والإفلاس. فالثقة هي أساس النجاح الاقتصادي; الثقة بالنفس, والثقة بالغير, والثقة بالمستقبل. ولكن الثقة ليست مجرد حالة نفسية, بل لابد وأن يسندها واقع اجتماعي مستقر مبني علي تجارب سابقة ومدعوما بتوقعات معقولة باستمرار أسبابها. وقد سبق أن نشرت في هذه الجريدة منذ سنوات عام 1996 مقالين عن أهمية الثقة في نجاح الدول اقتصاديا. وفي يناير من هذا العام نشرت مقالا جديدا بالأهرام بعنوان انعدام الثقة, مؤكدا أن أخطر ما نتعرض له هذه الأيام من مرحلتنا الانتقالية هو انعدام هذه الثقة, وأن انتشار ثقافة الريبة والاتهام والشك الدائم في كل ما يقال أو يحدث هو وصفه للفشل. وليس معني ذلك قبول الغفلة أو السذاجة, فالحذر لازم والفطنة مطلوبة, ولكن التشكيك في كل ما يجري هو نوع من الهوس. ولكن كيف تتحقق هذه الثقة في المجتمع؟ هل هي مجرد صفات شخصية في بعض الأفراد, أم هي, علي العكس, ظاهرة اجتماعية؟ وإذا كانت ظاهرة اجتماعية, فلماذا تكون بعض المجتمعات أكثر ميلا للثقة والتفاؤل, في حين أن مجتمعات أخري تسودها الريبة والتشكيك, وبالتالي التشاؤم حول المستقبل؟ يبدو لي أن المسألة اجتماعية بالدرجة الأولي فتعرف مجتمعات الثقة بشكل عام سلوكا منضبطا وصادقا وأمينا ومسئولا من الغالبية من الأفراد. ولذلك فإن ثقة المجتمع لها ما يبررها من سلوك ملموس من معظم الأفراد. فدول الثقة هي بشكل عام الدول التي يظهر فيها الأفراد أو معظمهم انضباطا أخلاقيا في السلوك بالصدق في القول, وإتقان العمل, وأداء الحقوق لأصحابها, والالتزام بالمواعيد, ورعاية حقوق الجار, وهكذا. فهذه الدول لا يحكمها القانون الوضعي وحده, بما يتضمنه من تشريعات ومحاكم, ولكن هناك قانونا أخلاقيا أوسع مجالا وأشد قسوة, وعقابه الفعال هو ازدراء المجتمع. فالكاذب لا مكان له في أي مجتمع محترم, وهو منبوذ من المجتمع حتي ربما من أسرته وعشيرته.والغش في الامتحان من الطلاب أو سرقة أبحاث الآخرين من الأساتذة والمفكرين هي جريمة اجتماعية كبري, ولو لم ينص القانون الجنائي علي عقوبة لها, ومراعاة نظافة الطريق ورعاية حقوق الجار واحترام قواعد المرور هي احترام للذات قبل أن تكون خوفا من تدخل الشرطي أو القاضي. وهكذا فوازع الأخلاق أكثر فعالية من الخوف من جزاء القانون. فأنت تستطيع أن تتحايل علي القانون, ولكنك لا تستطيع أن تتهرب من وازع الضمير وحكم المجتمع. ولذلك, نري أن مجتمعات الثقة هي أيضا مجتمعات القيم الأخلاقية, وحيث الكذب هو أشد الانحرافات وأكثرها جلبا للعار. حقا, هناك في كثير من الأحوال تجاوز في الحريات الشخصية أو حتي شذوذ في بعض الأفعال, ولكنها, كلها, تتم في وضح النهار دون رياء أو إدعاء أو نفاق. فالصدق والصراحة تعلو علي ما عداها. وكثيرا ما نسمع أقوالا عن أن التجارة فهلوة أو أنها شطارة, في حين أن الحقيقة التاريخية تؤكد أن نمو التجارة وازدهارها قد ارتبط بقيم الصدق والأمانة واتقان العمل وتحمل المسئولية. وقد تبلور كل هذا تحت مسمي السمعة, والتي أصبحت أحد أهم القيم الاقتصادية لأي مشروع ناجح. والسمعة لا تعني فقط الصفات الشخصية بعدم الكذب أو عدم السرقة, ولكنها تتضمن الكفاءة الإنتاجية والالتزام بتنفيذ التعهدات واحترام المواعيد وعدم الغش في المواصفات, وهكذا. فسمعة المشروع (الاسم التجاري) هي أحد أهم عناصر رأس مال المشروع, وإذا فقد المشروع هذه السمعة أو تدهورت مصداقيتها, فقد ضاع مستقبله أو تهدد بشكل كبير. فالمشروع يعمل من خلال السوق ومن أجل السوق, ولذلك فإن السمعة هي الضمان الحقيقي لاستمرار المشروع ونجاحه. وبرغم أن المبادلات في الأسواق البدائية بين أهل القرية أو المدينة, قد عرفت في الحضارات الزراعية القديمة, فقد ظل دورها محدودا, ولم يتوسع أمرها إلا مع قيام الثورة الصناعية, أو فترة الإعداد لها عندما توسعت التجارة الدولية عبر القارات, خاصة فيما بين الشرق الأقصي في الصين والهند وبين غرب أوروبا وتوسطتها الدولة الإسلامية. ويتم التعامل في هذه الأسواق بين الغرباء من مختلف المدن والدول. وفي خلال رحلة المواد الخام والسلع المصنعة لآلاف الأميال بين أقصي الشرق وأقصي الغرب والتي تستمر شهورا فإنها تتطلب أكبر قدر من الضمانات والثقة فيما بين المتعاملين. وقد نجح العديد من التجار من العرب ثم من الأوروبيين خاصة من المدن الإيطالية في تطوير شبكات وعلاقات مستقرة من مختلف الأوساط التجارية في هذه البلدان. وهي علاقات تقوم علي الثقة والائتمان والصدق. ونجح التجار من المدن الإيطالية خاصة فلورنسا في تطوير الأوراق التجارية التي تمثل ملكية البضاعة في الطريق. وهكذا بدأت بوادر الثورة الصناعية مع استقرار التجارة عبر الحدود واعتمادها علي الثقة في التعامل بين التجار, وقد طور التجار عددا من الأدوات القانونية المعتمدة علي الثقة لتسهيل انتقال السلع وتداولها, لعل من أهمها ظهور فكرة الأوراق التجارية والتي تتداول ملكيتها, وتنقل بالتالي ملكية البضاعة لحامل الورقة الجديد. وظهر إلي جانب التجار, الحرف والتي تعني بتطوير المهنة وتوفير الخبرة الفنية وسلامة المعاملات, وحيث يرتبط الصبي بالعلم ارتباطا مهنيا وشخصيا حتي يصبح بدوره معلما. وكان رؤساء هذه الحرف حريصين علي حماية المهنة فنيا وأخلاقيا. وكان شهبندر التجار, أو من يقوم مقامه بمثابة الأب الروحي للمهنة. ومن يخرج علي تقاليد المهنة, فإنه يكاد يفقد كل قدرة علي الكسب ويصبح طريد الجماعة. وهكذا, ظهر اقتصاد السوق في شكله الحديث, حيث قام علي المبادلة والاعتماد المتبادل بين الأفراد من ذوي التخصصات المختلفة, وهو اقتصاد يعتمد علي مصداقية كل متعامل مع الآخرين. وتعمل كل مهنة علي ضمان تقاليد المهنة وحماية أخلاقياتها في التعامل. ونظرا لأن التجارة والتجار يتعاملون أكثر من غيرهم بالنقود والإقراض والاقتراض, فقد أصبحت الثقة أهم عنصر في النشاط التجاري ولذلك تحرص معظم القوانين المدنية علي توفير الضمانات القانونية للثقة في التعاملات. فإذا كانت الكتابة مطلوبة في إثبات المطالبات المالية بين الأفراد, فإن هذه القوانين التجارية تكتفي بأي دليل, ولو لم يكن مكتوبا. فالكلمة هي أساس الالتزام في المعاملات التجارية. ولكل ذلك فإن النجاح الاقتصادي لن يتحقق بمجرد إعلان أو اتخاذ سياسات اقتصادية سليمة إن لم يصاحبها بيئة أخلاقية مناسبة للتعامل الاقتصادي الصحي والقائم علي الصدق والأمانة والمسئولية في أداء الأعمال بالدقة والمهنية. الاقتصاد لا يعمل في فراغ, بل لابد وأن تصاحبه بيئة اجتماعية مناسبة تدرك المسئولية الأخلاقية. فقيم الكسب السريع أو كبر مخك لن تقيم اقتصادا سليما. البنية الأساسية الأخلاقية لا تقل أهمية عن البنية الأساسية المادية. وبطبيعة الأحوال فإن القانون يفرض العديد من ضمانات السلوك النزيه, ولكنه وحده غير كاف, ولابد من الضمير الأخلاقي للمجتمع. لقد عرف الرسول عليه السلام, قبل نزول الوحي, بالصادق الأمين نتيجة لنزاهة معاملاته في التجارة. فالصدق والأمانة تظهر أبرز ما تكون في العلاقات التجارية. ومن هنا فإن الاقتصاد أحوج الآن إلي الأخلاق من أي وقت. فلا اقتصاد دون أخلاق. ولعلي أضيف أيضا أنه لا أخلاق في غيبة اقتصاد قوي وسليم. والله أعلم المزيد من مقالات د.حازم الببلاوي