عندما يهل علينا موسم الحج كل عام تتجه قلوب الأمة إلي مكةالمكرمة والمدينة المنورة حيث الفيض الرباني يغمر المكان والزمان وتشع شمس الإيمان القوية في قلوب المسلمين لتصوغ منظومة بمشاركة الملايين القادمة من أرجاء المعمورة لعبادة الله الواحد الأحد وأداء مناسك الشعيرة الكبري في الدين الحنيف سعيا لرضا الخالق واستجابة لأوامره, وهو ما يستوجب إبعاد هذه الشعيرة عن كل أمور الدنيا وشواغل السياسة والتي تشكل مجالات للفتنة والخلاف في الأقطار الإسلامية. إنها أيام قصيرة خصصها الله لأداء مناسك الفريضة وفق المحددات التي وضعها سبحانه وتعالي في كتابه الكريم وفصلها رسوله- محمد صلي الله عليه وسلم- فهل نجردها من سكينتها وتجلياتها الروحية لندخل في دوائر الجدل والخصومة التي لا تتوقف عند حد ؟ والسؤال كيف يمكن تحقيق هذه المعادلة: موسم حج نظيف من شواغل الدنيا وهموم السياسة وبعيد كل البعد عن النعرات المذهبية والطائفية ؟ يؤكد الدكتور عبد الفتاح إدريس, أستاذ الفقة بجامعة الأزهر, أن الحج عبادة مالية وبدنية, ولا يسوغ في العبادات استغلالها في غير ما شرعت فيه, لأن الأصل في العبادات الالتزام بما ألزم به الشارع المكلفين فيها, ولذا قال الرسول صلي الله عليه وسلم للمسلمين في حجة الوداع خذوا عني مناسككم, ومن ثم فإن ما يمارسه المحرم حال إحرامه بالحج أو العمرة يجب أن يكون من مناسكهما, وإلا كان مرتكبا مخالفة شرعية, ولذا فإن المسلمين لما تحرجوا من شراء المتاع وبيعه حال إحرامهم بالحج, رخص لهم الحق سبحانه به, فقال تعالي في معرض بيان أحكام الحج ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم, ومعني هذا أن غير ما رخص فيه الشارع من أعمال يقوم بها المحرم لحاجته إليه, ليس من أعمال الفضل, وأنه يظل علي أصل الحرمة, ومن ثم فإن اشتغال الإنسان بالدعاية الانتخابية أو الدعاية السياسية لنفسه أو لغيره, أو الدعاية المذهبية أو الطائفية أو نحوها, تعد خارجة عن مناسك الحج, فضلا عن خروجها عما رخص فيه الشارع للمحرم, فتكون محرمة. ويضيف أن القيام بالدعاية السياسية أو الانتخابية للنفس أو للغير أو الدعاية المذهبية أو الطائفية, إن كان صاحبها محرما بالحج, فإنه يرتكب محظورا من محظورات الإحرام, وهو ارتكابه لمحظور الجدال والمراء في الحج, وهو منهي عنه شرعا, إذ قال الحق سبحانه الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج وما تفعلوا من خير يعلمه الله وتزودوا فإن خير الزاد التقوي واتقون يا أولي الألباب, وقد فسر الجدال بما يفضي إلي السباب والشتم, إذ قال ابن مسعود وابن عباس وعطاء: الجدال في الآية: أن تماري مسلما حتي تغضبه فينتهي إلي السباب, وهذا الجدال لا يخلو منه موضع من مواضع الحديث في السياسة أو الدعوة إلي اتباع مذهب أو طائفة معينة, لأن من يروج لذلك لن يحرم من مناوئ له فيها, فيئول الأمر بينهما إلي السباب والشتم, وهذا محرم في الحج وفي غيره, وهو في الحج محظور من محظورات الإحرام كما ورد في الآية الكريمة. ويشير إلي أن استغلال الحج في الدعاية السياسية يؤدي لإلهاء الناس عن العبادة ويشغلهم عن التجرد لله تعالي فيها, وإبعادهم عنها, فكأن من يصنع هذا يصرف الحجيج عما جاءوا من أجله, وهو التوبة والاستغفار والإنابة إلي الله تعالي, إلي ما يدعوهم إليه, وصنيعه هذا أشبه بصنيع الشيطان, الذي يغري الناس بالتلهي عن عبادة الله تعالي وصرفهم عنها إلي غيرها, فيؤول أمرهم إلي الخسران والبوار, يضاف إلي هذا أن الثواب علي العمل كما يعظم في المواضع الفاضلة كحرم مكةالمكرمة, فإن السيئة تعظم إذا ارتكبت فيها كذلك, ولذا قال الحق سبحانه في حق المسجد الحرام: إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام الذي جعلناه للناس سواء العاكف فيه والباد ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم25 الحج, والعبادة في الحج من سبيل الله تعالي, فدعوة الناس إلي غيرها صد عن سبيل الله سبحانه, فيلحق الصاد الوعيد الوارد في هذه الآية الكريمة, وهو وعيد شديد يدل علي أن فاعل ما توعد عليه به ارتكب كبيرة. لا للاستغلال السياسي وعن سعي البعض إلي محاولة استغلال موسم الحج لمصالح دنيوية وأغراض سياسية تحديدا.. وكيف يمكن تجنب ذلك؟ طرحنا هذا التساؤل علي المرجع الشيعي اللبناني علي حسين فضل الله,فأجاب قائلا: الحج موسم عبادي إسلامي جامع بامتياز, ففي خلال هذا الموسم يجتمع الناس من أقطار العالم كافة ليؤدوا هذه الفريضة الجماعية الجامعة, وليلتقوا علي كلمة التوحيد, ويلبوا نداء الله, بأنه المعبود الأوحد, الذي لا شريك له, وبأنهم يعبدونه, ولا يعبدون أحدا سواه, وبأنهم يلتزمون ما أمرهم وينتهون عما نهاهم, وأنهم الأحرار أمام العالم كله, بتخليهم عن كل أصنام الأرض, وأنهم لن يكونوا إلا سادة أنفسهم علي المستوي الفردي والاجتماعي, وعلي مستوي وجودهم كأمة, ومن الطبيعي أن يسعي البعض للاستفادة من هذا الاجتماع لتبيان رأيه وفكره ونهجه وأسلوبه في معالجة القضايا المطروحة, ولكن لا ينبغي الخروج عن الأهداف التي أرادها الله للحياة والمبادئ التي جاء بها رسول الله(ص الله عليه وسلم) في العمل علي تحقيق المصلحة العامة للمسلمين والبعد عن كل المصالح الآنية والشخصية, ونحن نقول, إن للحج غايات سياسية عامة تهم الأمة في شكل عام.. إذ تعكس صورتها الجامعة, واتحادها العفوي, لكن لا نقر بكل المساعي الخاصة للاستفادة من هذا الجمع الكبير علي حساب الأمة وصورتها ومصالحها ومكانتها في العالم, لأن ذلك قد ينحرف بالحج عن غاياته العبادية الأساسية. وعن المنظور الصحيح لهذه الشعيرة الكبري في الإسلام والوسائل التي من شأن إتباعها الحفاظ علي نقائها وتحقيق أهدافها الحقيقية؟.. يجيب فضل الله قائلا: إن الله, سبحانه وتعالي, حين أوجب هذه الفريضة علي كل مستطيع من المسلمين في أنحاء المعمورة كافة أرادها مناسبة للعبادة.. بحيث يتخلي فيها الناس عن كل مغريات الدنيا وبهارجها, ويتحررون من كل غاياتهم الشخصية والدنيوية, ويقفون بين يديه بكل إخلاص ومحبة, معلنين أنهم مستعدون لترك الدنيا بما فيها تلبية لندائه واستجابة لمطلبه, لذلك أراد لهم في الحج أن يلبسوا لباسا موحدا, بحيث لا يعرف غنيهم من فقيرهم, وأن يؤدوا مناسك موحدة, بحيث لا امتياز لأحدهم علي الآخر, ولا شأنية لميسورهم علي معسورهم, كما أراد أن يذيب الفوارق الاجتماعية والسياسية فيما بينهم, بحيث لا خصوصية لحاكم أو مسئول علي مواطن أو مسلم عادي, ولا لعالم علي متعلم, كما لا تمييز بين أجناسهم أبيضهم وأسودهم, فكلهم في الحج سواء, لذلك, فالغاية العبادية من الحج هي أسمي الغايات الإنسانية علي الإطلاق, إذ أنها تحقق هدف العودة بالإنسان إلي إنسانيته المجردة الفطرية, بعيدا عن كل التمايزات التي يخلقها المجتمع في حركته الطبيعية, وعن كل أشكال التصانيف التي يتداولها الناس في بيئاتهم الخاصة والعامة.. فاللباس واحد, والدعاء واحد, والمظهر واحد, والجميع يؤدون العبادة لله الواحد, وهذا أفضل ما يمكن أن تظهر به أمة من الأمم في مناسبة عظيمة من مناسباتها التي تؤمن وتلتزم بها أمام الله. عامل توحيد ولكن كيف يكون موسم الحج عامل توحيد للأمة في الوقت الذي شاعت فيه الفرقة بين المسلمين علي أسس عرقية ومذهبية؟ يقول فضل الله ان الحج هو من الفرائض العبادية التي يقوم بها الأفراد بشكل جماعي, كما هي فريضة الصيام في شهر رمضان المبارك, التي يلتزم فيها عباد الله بشكل جماعي, لذلك, هي عبادة تشتمل علي أبعاد تتجاوز الفردية, في مظهرها ودلالاتها, إلي مظهر الجماعة في إجتماعها واتحادها, إذ أن مظهر الوحدة بين المسلمين يتجلي في الحج بأبهي صورة, ففي الحج ليس هناك مظهر مفتعل أو مصطنع, بل مظهر عفوي طبيعي لا يرقي إليه الزيف, وهو يحصل من دون دعوة شخصية من أحد, لا رئيس ولا زعيم ولا قائد ولا جهة ولا أي فئة من فئات الأرض قاطبة, بل هي تلبية لدعوة رب كريم, إلي حيث التقوي والمغفرة والعتق من النار, ولأنها دعوة إلهية, فلا بد من أن تكون كل أهدافها وغاياتها ومقاصدها منسجمة مع ما يريده صاحب الدعوة لها, وأهم هذه الغايات والأهداف, إظهار وحدة الأمة وتكاتفها وتعاطفها وتعاضدها, فليس في الحج فئوية أو طائفية أو مذهبية, فالجميع يشتركون في جميع المناسك بشكل متساو, فلا نجد فرقا بين أتباع أي من فرق المسلمين ومذاهبهم, وحتي لا يمكن أن تميز أحدهم عن الآخر, لا في دعائه ولا في لباسه ولا في أداء أي منسك من مناسكه.. من هنا, فالحج مناسبة يتعارف فيها المسلمون بعضهم إلي بعض, ليتشاركوا همومهم ومشاكلهم, وليتشاوروا حول قضاياهم, وليتبادلوا تجاربهم الشخصية والاجتماعية, ولينقل كل منهم شيئا جديدا إلي الوطن الذي جاء منه, وليتعرف كل منهم إلي ما يهم الآخر, ما يفرحه وما يحزنه, وليكونوا كلمة واحدة, وقوة موحدة أمام الظالمين والمستكبرين في أنحاء العالم. وفي الحج, دعوة إلي إزالة كل الفوارق, وإزالة كل التشنجات التي يحدثها الاختلاف المذهبي, أو التنوع في الآراء الاجتهادية, أو في إدارة الواقع الاجتماعي أو السياسي أو الإداري أو الأمني, حيث يساهم الحج في تأكيد التواصل بين كل المسلمين بقلوب وعقول منفتحة, تستحضر الله سبحانه في كل تفاصيل أدائها وتفكيرها. فكل الحجاج من كل أصقاع الأرض يؤكدون بسلوكهم المشترك علي الوجهة الواحدة, والمنهج الواحد, والمبدأ الواحد من خلال طوافهم معا وسعيهم معا ووقوفهم معا ومبيتهم معا ورجمهم للشياطين معا وأضحيتهم معا. والحجاج حين يلتقون ويتواصلون علي أرض واحدة وفي مكان واحد وزمان واحد, فإن في ذلك القوة والعزة لهم جميعا. وفي النهاية يوجه المرجع الشيعي دعوة للمسلمين بضرورة تحويل هذا الأمن الذي يعيشونه في الحج إلي أمن يتحرك في كل مواقعهم الاجتماعية والسياسية والأمنية, وعدم الوقوع في الفتن التي يراد تحريكها في أكثر من موقع من مواقع المسلمين, لأن في ذلك توهين لمقومات القوة عند هذه الأمة, التي أرادها الله عز وجل أن تكون رائدة أمم الأرض, وخير أمة أخرجت للناس.