ثمة طريقان لا ثالث لهما يسلك المعارضون لأي حكم أحدهما. فإما أن ينظموا صفوفهم ويعملوا بدأب لإقناع الناخبين بأنهم يمثلون بديلا أفضل للحكم القائم بغض النظر عن مستوي أدائه, أو أن يكتفوا بمهاجمته والصياح ضده بانتظار فشله, وبالتالي تفاقم المشكلات التي تعاني منها قطاعات واسعة في المجتمع. هذان منهجان مختلفان تماما يقوم أحدهما علي عمل إيجابي مقترن برؤية واضحة واستراتيجية للمستقبل, بينما يقتصر الثاني علي الحملات السلبية التي تهدف إلي التعجيل بفشل الحكام أكثر مما تسعي إلي التبشير بأن في الامكان أبدع مما هو قائم حتي إذا لم يكن فاشلا. ليس هناك ما يدل حتي الآن علي أن معظم التيارات الوسطية والليبرالية واليسارية المعارضة لحكم الإخوان المسلمين تميل إلي المنهج الأول. فلايزال خطابها معبرا عن المنهج الثاني الذي يقوم علي انتظار فشل حكم الإخوان أو محاولة التعجيل بهذا الفشل, ويخلو بعضه من الثقة الضرورية لممارسة معارضة قوية ومؤثرة. وربما يكون وراء هذا الخطاب اعتقاد في أن هذا هو زمن الإخوان واستسلاما لواقع توازن القوي الراهن وتسليما بتحول الربيع العربي في مجمله إلي إسلامي. لكن التفسير الأرجح لهذا المنهج هو تطوير قدرات التيارات الوسطية والليبرالية واليسارية حتي تزيد قدرتها علي بناء تنظيمات حزبية قوية تعرف طريقها إلي المجتمع وتستطيع التغلغل فيه وتصل إلي أعماقه ولا تقف عند سطحه. فبدون تنظيم قوي يظل العمل السياسي نخبويا إلا قليلا. وقد تتيح التحالفات والائتلافات التي يسعي كثيرون إلي بنائها الآن فرصة لزيادة فاعلية عملهم بدرجة أو بدرجات. ولكنها تبقي زيادة كمية لا تحقق النقلة النوعية التي تشتد حاجة القوي المعارضة إليها لكي تنافس بقوة في الانتخابات البرلمانية المقبلة. لذلك يبدو منهج هذه القوي سلبيا بالنسبة إلي فرص التطور الديمقراطي بدرجة لا تقل عما ينطوي عليه ميل الإخوان إلي الاستئثار وإصرارهم علي أن يحملوا وحدهم تركة تنوء بها الجبال. وربما يكون في ثقل هذه التركة ما يغري بعض معارضيهم, وربما الكثير منهم, باللجوء إلي منهج الحملات السلبية وليس العمل الايجابي, رغم النتائج الهزيلة التي أدي إليها في الانتخابات البرلمانية الأخيرة التي أجريت في أكتوبر ونوفمبر. 2011 فكان التركيز علي مهاجمة الإخوان مفيدا لمن هوجموا وضارا بمن هاجموا. فمن ينشغل بغيره يبدد وقته وجهده فلا يجد متسعا ولاطاقة لتقديم نفسه إلي الناخبين. وربما تكون المهمة الصعبة التي تواجه الإخوان دافعا إلي استمرار هذا المنهج لأنها تجعل الفشل واردا علي نحو يغري بانتظار اللحظة التي يمكن التحرك فيها لحصد النتائج التي ستترتب علي ازدياد استياء الناس وغضبهم واحتجاجاتهم بسبب عجز الحكم الإخواني عن الوفاء بتطلعاتهم. ربما يقيس بعض من يفضلون منهج الحملات السلبية, أو بالأحري يستسهلونه, علي تجربة الإخوان مع نظام حسني مبارك حين لجأوا إلي هذا المنهج وانتظروا اللحظة المناسبة. غير أنه لم يكن أمام الإخوان خيار أخر في تلك المرحلة. فكان طريق العمل الإيجابي والتغيير عبر الانتخابات مسدودا, بخلاف الحال الآن. وليس هناك دليل علي هذا الاختلاف أكثر من أن الإخوان المسلمين فقدوا في الانتخابات الرئاسية في مايو الماضي نحو نصف الأصوات التي حصلوا عليها في انتخابات مجلس الشعب التي أجريت في أكتوبر ونوفمبر. 2011 لكن علي القوي الوسطية والليبرالية واليسارية إدراك أن الانتخابات الرئاسية تختلف بطبيعتها عن انتخابات البرلمان. ولذلك يصعب توقع نتائج الانتخابات البرلمانية المقبلة بناء علي الخريطة التي رأيناها في الانتخابات الرئاسية. مع ذلك تظل الكرة في ملعب الانتخابات وصناديق الاقتراع. والشعب الذي تحرر من القمع والقهر صار في قلب هذه اللعبة, الأمر الذي يوجد ضغوطا متزايدة علي من يتولي السلطة ويوفر فرصا كبيرة للمعارضة إذا بنت تنظيماتها القادرة علي التغلغل وتجاوزت انقسامها وامتلكت رؤية واضحة وثقة في النفس. لا يقل أهمية عن هذا كله أن الإخوان والإسلاميين العرب عموما يدخلون اختبارهم الأول في السلطة بقليل من الخبرة في مجال إدارة الدولة الحديثة ذات الأجهزة المتشعبة والمعقدة, بغير كثير من المعرفة اللازمة لهذه الإدارة. وليس سهلا بأي حال, في الوقت نفسه, وضع سياسات فاعلة تحقق إنجازا ملموسا في وقت معقول وتمزج بين العدالة الاجتماعية التي تشتد الحاجة إليها في بلاد بلغ فيها الفقر معدلات تتجاوز ما يظهر في أي إحصاءات أو بيانات من ناحية وأدوات الاقتصاد الحر التي لا يري الإخوان بديلا عنها لتحريك عجلة الإنتاج وجذب الاستثمارات وحفز المستثمرين. يضاف إلي ذلك أن جماعة الإخوان بدأت تفقد أحد أهم مصادر قوتها, وهو التماسك الداخلي الذي لم يكن صعبا المحافظة عليه وهي تحت الملاحقة والمطاردة حين كان الخلاف في الرأي داخلها ترفا لا مجال له. فقد أصبح هذا الخلاف ممكنا بعد أن خرجت من حالة المحنة واقتربت من وضع التمكين. غير أن استفادة خصوم الإسلاميين من هذا كله يتوقف علي مدي قدرتهم علي تنظيم صفوفهم والوصول إلي قلب المجتمع وتطوير خطاب جديد يمكن لبسطاء الناس استيعابه والتفاعل معه. وهذا هو ما نجح الإخوان فيه من قبل. فخسائر طرف ما لا تتحول مكاسب لطرف آخر تلقائيا. لابد أن يكون الطرف الذي تصب خسائر غيره في مصلحته قادرا علي أن يحولها إلي مكاسب يجنيها فعليا, وإيجاد الظروف الملائمة لكي تفعل نظرية الأواني المستطرقة فعلها. فهذه الأواني لا تنقل الخسائر أو المكاسب من طرف إلي آخر في الساحة السياسية بدون أوعية مناسبة. ففي هذه الأوعية تتجمع حصيلة الخسائر في ناحية وتنتقل في صورة مكاسب إلي الناحية الأخري. المزيد من مقالات د. وحيد عبدالمجيد