تسجيل بعين التخييل ورث جلال أمين عن والده العظيم عادة مخاطبة الأوراق وممارسة الكتابة, وتعززت هذه العادة فيما يبدو بتأثير أخيه الأكبر حسين الذي كان أقرب إلي عالم الأدب, حيث قام بدور أشد فاعلية في حثه علي التسجيل والتحليل, ومن هنا تكونت لدي الكاتب ثروة نفيسة من الرسائل المتبادلة بينهما أسعفته في هذه السيرة الثانية, ونشطت لديه قدرة التخيل الضروري لإعادة بناء تفاصيل الحياة الصغيرة وهوامشها الدقيقة مما كان يسميه الدكتور مندور فتات الحياة, وهو الذي يعطي القارئ مذاق اللحظة الطازجة ووهجها اللافت, ولولا هذه الرسائل, وما دونه الكاتب من مذكرات, لما كان بوسعه أن يعتمد علي ذاكرته فحسب وهو يحلل ولعه بالفن مثلا, وإصراره علي الاعتزاز بما توهم انه قد وصل اليه باجتهاده الشخصي في اكتشاف بعض القوانين الجمالية التي تحكمه, وكلها مثبوتة في فلسفة الفن وما كتب عنها, ومن الطريف ان يظل حتي كتابة هذه السيرة متمسكا بوهمه دون ان ينتبه لإشارات أخيه الذكية إلي ان يكتشف بنفسه ما سبق إليه المبدعون من قبل, وليس هناك ما يضمن ان يكون قد اختزن في وعيه الأفكار دون أن يدري, فهو يقول أخيرا وصلت إلي أن العنصر المشترك في الأعمال الفنية كافة من الموسيقي والشعر والأدب والرسم والنحت هو إثارة التوقعات ثم اشباعها, لم أعد الي التفكير في الأمر ولكني لازلت أشعر بأن مثل هذه اللحظات التي استغرقت فيها بدافع ذاتي محض هي من أشد لحظات حياتي خصوبة وإمتاعا. وإذا كان هذا صحيحا في جملته فإن ما أتاح له الاحتفاظ بما يشوقه من هذه اللحظات هو تسجيلها في رسائل متبادلة لم يعلق بذاكرته منها سوي شعوره الخاص, اما ما لفته اليه اخوه الأكبر من توافقه جزئيا مع نظرية شوبنهاور في الموسيقي فلم يعتد به, كما أنه لم يطلع علي الدراسات المستفيضة في علم الجمال ولم يتبين ان ما عبر عنه هو ما يسمي بجماليات الائتلاف, وأن هناك نوعا آخر أشد قدرة علي تفسير الابتكارات الإبداعية وهو جماليات الاختلاف, وهي التي كان يرفضها بشدة الأستاذ حسين في تعليقه علي إعجاب أخيه بمسرحية الكراسي ليونسكو ويصيح فيه أين الحياء لمجرد أنه أبدي هذا الإعجاب, وذلك لما يمتلكه الأستاذ حسين متعه الله بالصحة من حس أخلاقي جارف يصبغ نظراته للفن, هذا الحس الذي منع فيما يبدو أخاه الأصغر من البوح في سيرته الأولي بتجاربه الجنسية الغضة, ولكنه هذه المرة يستجمع كل شجاعته ليحلل عديدا من تجاربه, ابتداء من تجربته الساذجة التي دونها في دفتر مذكراته بعنوان المرأة الأولي كما يسجل علاقته الآلية الرتيبة مع غانية عابدين في صباه الباكر قبل سفره للبعثة, لكن الأهم من ذلك هو علاقته الحرة لمدة ثلاث سنوات مع صديقته الانجليزية التي يقول عنها التقيت بها وأنا جالس مع مجموعة من الزملاء العرب الذين يدرسون في نفس كليتي.. أبدت هي أيضا اهتماما بي يفوق اهتمامها بالآخرين, دعوتها للعشاء فقبلت بسرور, ولم تمض بضعة أيام حتي كنا قضينا الليلة في غرفتي الصغيرة, كانت تجربة جديدة تماما علي, ولكنها جلبت لي ثقة بالنفس, استمرت علاقتنا الحميمة ثلاث سنوات, ثم يورد أسباب عدم انتهائها بالزواج, كما يورد أصداءها بعد سنوات طويلة ومدي ما أثارته من شجن في نفسه يجسد حكمة مذكراته كلها كما يعبر عنها شكسبير في مسرحية الملكك لير الحب يبرد والصداقة تتصدع والأشقاء ينقسم بعضهم علي بعض مما يورث هذا الشعور المرير الذي يطلق عليه خيبة الآمال. وإذا كانت هذه السيرة تتضمن جوانب أخصب وأعقد من محاولة الإحاطة بها في مقال فإن البعد السياسي الماثل فيها يمنحها حيوية فائقة, خاصة عندما يتكئ علي مذكراته العجيبة ويستحضر في الفصل المعنون ماذا يحدث لنا في مصر وضعه بد العودة من بعثته, والإحباطات التي أصيب بها مع أبناء جيله بالرغم من حظوظهم الأوفر ممن جاء بعدهم, مما يؤدي الي فقدان القدرة علي العمل العملي الخلاق, لعل الجدول الطريف الذي سجله لخطوات حصول الاستاذ حينئذ علي إذن بحضور مؤتمر دولي ان يكون بالغ الدلالة علي هذا التاريخ المسكوت عنه, لقد قدم جلال أمين في هذه الرواية الثانية لسيرته ما افتقدناه في روايته الأولي وكشف عن تطوره الفكري والثقافي بوعي غير شقي وثقة تجاوزت ما كان يزعمه عن نفسه من الشك في قدراته حينا وهوس التفوق الذي يركبه في معظم الأحيان فيتيح له قدرا من النجومية التي يحظي بها الأفذاذ في مجالتهم العلمية الرصينة لكن هذا الإحساس العام بخيبة الأمل لا يخفي شعورا بالسعادة يعبر عنه قائلا: إني لا أتردد في اعتبار نفسي سعيد الحظ, علي الرغم من كثرة ما تعرضت له في حياتي, مثلما تعرض غيري, من حالات خيبة الأمل, سعيد الحظ بأبي وأمي واخوتي وبزوجتي وأولادي, وبوظيفتي وكتاباتي, ولكني اعتبر ان أهم ما كنت سعيد الحظ فيه هو ما ولدت به من ميل طبيعي للانشغال بمشكلات عقلية ومحاولة حلها, فقد كان هذا مصدر سرور مستمر لي, سواء وصلت الي حل للمشكلة أو لم أصل, إن هذا الميل الطبيعي الذي لا فضل لي فيه هو الذي جعلني أجد سرورا في التدريس بالجامعة, في إعداد المحاضرات وإلقائها وهو يعود في هذا المشهد إلي تأكيد ما سبق أن انتهي اليه في سيرته الأولي من أن الحياة لا تكاد تزيدنا شيئا عما فطرنا عليه, مقللا من شأن الخبرة والتجارب والمراس الصعب في التدريب والتعلم, وأحسب أن الكثيرين لا يوافقونه علي ذلك, ويرون ان إرادة البشر وما يصنعونه بحياتهم هي مناط عظمتهم ومسئوليتهم في الآن ذاته, وإذا كان جلال أمين قد تعرض لبعض اللوم إثر نشره لبعض أسرار أسرته في السيرة الأولي فإنه قد غطي هذه السيرة الثانية علي ما يتصل بغيره بقدر ما أمعن في تعرية ذاته وهذا موقف أخلاقي صائب يمارس فيه حريته في الكتابة والكشف بشجاعة تحسب له, تزيد من فرص التواصل الصادق بينه وبين قرائه وقدرته بالتالي علي التأثير فيهم, إذ أن من أهم النتائج الجمالية للسير الذاتية العميقة الجارحة لسطح الحياة الأملس انها تعيد ترتيب منظومات القيم لدي الضمير الجماعي بحيث يعتبر الصدق والاعتراف بما يمكن ان يعد ضعفا من قبيل القوة النفسية والمعنوية للفرد والمجتمع, وأحسب ان هذه السيرة قد تداركت قدرا مما أحدثته في السيرة الأولي بشيء من التوازن الصحيح بين الفن والتاريخ, وكشفت عن موهبة الكاتب السردية ووعيه بأدواتها من مذكرات ورسائل, وقدرته علي التعبير التلقائي دون تكلف, وأهم من ذلك تلقيه بجدية ما أثارته سيرته الأولي واستجابته الطيبة للإضاءات النقدية التي وجهت له, بطيبعة الاستاذ الذي يري انه فطر عليها ويسعد بممارستها تعليما ومتعة وعلما.