إبراهيم فتحي : تعلو أصوات تدعو إلي استعادة الخلافة الإسلامية استكمالا للدعوة إلي تطبيق الشريعة الإسلامية في إصدار القوانين. وكان الخليفة لقب حكام المسلمين في عصور طويلة ماضية, فهو أمير المؤمنين جميعا الذي يخلف الرسول ويقوم مقامه ويتابع مهمته. وانعقدت الخلافة بمبايعة أهل الحل والعقد من العلماء والرؤساء ووجوه الناس لا يشاركهم النساء ولا الكافة. ولم تكن الخلافة الاسم الصحيح لتسمية مؤسسة كانت في قمة الهرم السياسي العثماني- كما يذهب بعض الففقهاء- فذلك اللقب ليس جديرا به إلا الخلفاء الراشدون يضاف إليهم عمر بن عبد العزيز. وفي الواقع التاريخي لم يكن لقب الخليفة يستخدم رسميا للسلطان العثماني حتي القرن الثامن عشر حينما تم إعلان السلطان خليفة ليكتسب نفوذا روحيا علي المسلمين جميعا في زمن التوسع الغربي, وذلك بزعم الحفاظ علي وحدة المسلمين. ولكن هزيمة العثمانيين في الحرب العالمية الأولي ونزعة مصطفي كمال أتاتورك لإقامة دولة مدنية حديثة أدتا إلي إلغاء الخلافة علي مرحلتين: الأولي في نوفمبر1922 حيث فصلت السلطنة عن الخلافة وحلت الجمهورية محل السلطنة وانتخب عبد المجيد خليفة للمسلمين جميعا علي أن يكون منزوع السلطة بلا نفوذ إداري أو سياسي, يرتدي بردة الرسول ولا يحمل سيفه. ثم كان إلغاء الخلافة نهائيا عام.1924 ولم يعترف الفرس ولا الأفغان ولا مسلمو أفريقيا بخليقة اسطنبول قط. ويقول مفكرون إسلاميون إن فكرة خليفة واحد للمسلمين يمارس سلطة دينية عليا علي كل المسلمين صدرت من كتب البشر لا من كتاب الله كما لم تصدر عن الواقع. فلم يمارس أي خليفة علي المسلمين سلطة تشبه سلطة البابا علي الكاثوليك. وتدور مجادلات متشعبة حول التعارض بين مفهوم دولة مدنية حديثة مبنية علي إرادة شعب وفكرة دولة خلافة فوق القوميات مرتكزة علي الروابط الدينية أساسا. فالأولي تتطلب مساواة علي أساس المواطنة دون نظر للعقيدة الدينية والثانية تفترض أسبقية الإيمان الديني. فهناك تناقض بين خلافة إسلامية عالمية ودولة وطنية حديثة. وما أكثر ما احتدم الجدل حول الخلافة, فالخلافة عند نقادها لم ينزل بها أمر إلهي بل هي مؤسسة قائمة علي منفعتها لإدارة شئون الجماعة الإسلامية. وكان أمر الخلافة مصداقا لما جاء في الحديث الشريف من أن الخلافة بعدي ثلاثون سنة, ثم يكون ملك عضوض أي فيه ظلم وعسف وقائم علي القوة. لقد ترك الخلفاء الراشدون أهل البلاد المفتوحة أحرارا في أديانهم, واعتنق كثير من المسيحيين الإسلام واتخذوا العربية لغة لهم لأنهم اطمأنوا إلي عدل المسلمين. ولم ينتشر الإسلام بالسيف بل انتشر بالدعوة في المحل الأول, فقد اعتنقته أمم هي التي قهرت المسلمين عسكريا كالمغول والترك. كما انتشر الإسلام في الهند واعتنقه ملايين مع أن الإنجليز قاوموه وواصلوا التبشير وسط المسلمين دون جدوي. وفي مصر اكتفي الخلفاء المسلمون بجزية زهيدة نسبيا يدفعها الأقباط تقل كثيرا عما كانوا يدفعونه لمسيحيي بيزنطه الذين أذاقوهم الأمرين لاختلاف المذهب. ولم تبدأ الفتوحات الإسلامية الكبيرة إلا في زمن الخليفة الثاني عمر بن الخطاب عنوان العدل والإنصاف والزهد. ونقل خلفاء بني أمية مقر الخلافة إلي دمشق وساروا علي نمط الملوك. وواصلوا الفتح ودخلوا إسبانيا وأقاموا فيها مملكة دامت نحو ثمانية قرون. ونقل في القرن الثاني من الهجرة مقر الخلافة من دمشق إلي بغداد بعد أن هدم بنو العباس خلافة الأمويين سنة752 م. ولم تكن الروابط بين الأمم التي اجتمعت تحت راية الخلافة متينة ولم تلبث أن تداعت, فأخذت هذه الأمم تستقل واحدة بعد الأخري في إمارات وممالك مستقلة. وفي مصر فاز ابن طولون باستقلال سياسي وأقام مملكة, كما سيطر علي إسبانيا خلفاء مستقلون كل الاستقلال, وواصلت دولة الخلافة الانقسام ونشأت دول مستقلة في كثير من ولاياتها. وبعد ذلك غزا المغول بغداد في656 هجرية(1258 م) وقضوا علي الخلافة العباسية التي دامت خمسمائة سنة. وطوال خلافة بني أمية وما بعدها لم تكن هناك قواعد مستقرة تنظم تعاقب الخلفاء, فقد سار بنو أمية علي نظام ولاية العهد بأن يعهد الخليفة بمنصب الخلافة من بعده لأحد أبنائه أو إخوته أو أبناء عمومته مثلما كانت العادة في المجتمعات السابقة للإسلام حينما كان ملوك الروم والفرس يورثون الزعامة إلي أحد الأبناء أو الأقارب. وقد انتهج الخليفة معاوية بن أبي سفيان هذا المسار فعهد بمنصب الخلافة إلي ولده يزيد. فلم يكن هناك نظام واضح محدد لمعايير تولي الخلافة أو ولاية العهد عند بني أمية. وبعد وفاة الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز بويع ليزيد بن عبد الملك بالخلافة ثم ظهر أن يزيد استقر علي أن يكون ابنه الوليد وليا لعهده علي الرغم من أنه لم يكن يتعدي الحادية عشرة. ولا يعتبر حسين مؤنس ما ذهب إليه عمر بن الخطاب من قصر الشوري علي نفر قليل من قريش مراعاة لضرورات وقت معين نهجا واجب الاتباع, فقد كان القصر علي العكس من مسلك الرسول. ويرفض كثيرون ممارسات الخلفاء الأمويين وتحولهم إلي طغاة مستبدين ويستنكرون أمر معاوية بلعن الإمام علي فوق المنابر. ويذهب حسين أحمد أمين إلي أن نظرية السلف الصالح في الخلافة ابتدعها الفقهاء والمؤرخون لرسم صورة رومانسية للعصر الإسلامي الأول, ويري ضرورة الكف عن الحنين للماضي والتحسر عليه وضرورة التطلع للمستقبل بالعمل الجاد والتخلي عن تصورات يراها أسطورية. ومآثر الخلفاء الراشدين فذة من الصعب أن يتحمل مشقتها حكام اليوم فقد اقتدوا بالرسول في زهده وعاداته. ويذهب حامد ربيع إلي أن نظام الخلفاء الراشدين هو نموذج مثالي للحكم الإسلامي ولكن ليس النموذج الوحيد. وقد خرج هذا النظام عن بعض قواعده نسبيا مع خلافة عثمان, وحاول علي ابن أبي طالب أن يعيده إلي وضعه, ثم انتهت جميع قواعده في حكم معاوية. فالنصوص القرآنية لم تحدد خصائص النظام السياسي الإسلامي وتركتها للاجتهادات وقدرات العقل البشري ومسئولية الجماعة.