الفلسفة تدعونا إلى التواضع وتحفزنا على إدراك أن ما نظنه معرفة حقيقية ليس معرفة حقيقية فى جميع الأحوال. هذه بعض من رؤية الفيلسوف الانجليزى الشهير برتراند راسل (1872 1970) للعالم والحياة التى ضمها كتاب صغير له بعنوان «العالم كما أراه» ترجمة الدكتور نظمى لوقا. الكتاب عبارة عن حوار طويل مع راسل يعرض من خلاله فلسفته فى العلم والفكر والسياسة والحياة. فهو كفيلسوف مؤمن بالشك فى كل شيء يرى أنه: ينبغى على المرء ألا يكون موقنا من شيء على الاطلاق!.. ذلك أنك إذا كنت متأكدا وموقنا بشىء ما، فأنت مخطئ بالتأكيد أو مخطئ يقينا! فليس هناك شىء واحد جدير باليقين القاطع. وينبغى أن يترك المرء دائما موضعا أو فسحة لشئ من الشك فى صميم ما يعتقده أو يصدقه، وينبغى فى الوقت نفسه أن يكون قادرا على التصرف بحمية وحزم، برغم وجود هذا الشك. أو ليس هذا ما يصنعه فعلا أى قائد عندما يتأهب لمعركة؟ فهو لا يعرف حقا ما يصنعه العدو، لكنه إذا كان قائدا جيدا يصيب الحدس والتخمين. وفى الحياة العملية ينبغى أن يتصرف المرء على أساس احتمالات.. وما انتظره من الفلسفة أن تشجع الناس على حسن التصرف، ومن غير أن يكونوا على يقين تام. وأن قضية الفيلسوف ليست تغيير العالم، بل فهمه، وهذا نقيض ما قال به ماركس. وأن كثيرا من الناس يريدون الحرب بشرط ألا تكون على أبوابهم. والسويد لم تخض حربا منذ عام 1814 وهى من أسعد البلاد فى العالم. وعن الحالة النفسية والقلق الذى يصيب المفكرين والمبدعين دائما، يقول راسل: الضجر دليل على ذكاء فائق، ولكنه ينصح كل إنسان يريد أن يكون سعيدا بالابتعاد عن القلق. وهو يرى أن هناك أربعة أشياء يعدها مهمة لأى إنسان، أولها: الصحة، ثانيها: الوسائل المطلوبة ليكون الإنسان بمأمن عن الحاجة، ثالثها: العلاقة الموفقة مع الآخرين، رابعها: النجاح فى العمل. هذه الروشتة للنجاح فى الحياة يعززها فهم الفيلسوف الكبير للبشر والتفاوت بينهم، فالأشخاص سليمو النفس والفكر نادرون جدا، ويوجد لدى جميع الناس تقريبا مكامن خفية للجنون، كما يقول فيلسوفنا الراحل. وبخبرته السياسية يقول لا أظن أن الجواسيس والخونة أحدثوا أضرارا كبيرة لنا أو نفعا كبيرا للأعداء، وإنما هذه ميلودراما، وبمثل هذه الأقاصيص يثيرون حياة الناس. وأن معرفة القراءة والكتابة بالنسبة للكثيرين جعلتهم أشبه بالمدن المفتوحة أمام غزوات الدعاية المغرضة، وهذه الدعايات زمامها دائما بيد الدول. ولأن راسل كان يكره الرياضيات جدا فقد قال عن افلاطون: إن كتب هذا الرجل يجب أن تلقى فى النيران، ذلك أن أفلاطون لم يكن يحب العلم، وإنما كان يحب الرياضيات. وحكى راسل أنه قام بزيارة الصين لمدة عام أعجب خلالها بحضارتها والنزعة العقلية التى تسودها بل أنه يدين لهذه الزيارة بالفضل حيث علمته أن ينظر إلى الحاضر فى ضوء الأحقاب التاريخية البعيدة، وساعده ذلك أن يتخلص من النظرة الضيقة التى تحبس الإنسان فى سجن الحاضر بضغائنه وأحقاده وآماله المحدودة. وذكر راسل هذه الطرفة التى تفسر أن كل واحد يظن بلده أحسن بلد فى العالم، حيث قال: كتبت فى أحد كتبى، هناك بالطبع أمة حائزة لجميع الفضائل والمزايا القصوى التى تدعيها الأمم الأخرى، وهذه الأمة هى التى ينتمى إليها قارئى! فجاءنى خطاب من بولندى يقول: اسعدنى كثيرا أن تعترف لبولندا بالتفوق على سائر الأمم. لمزيد من مقالات محسن عبد العزيز