تمثل إيران، بحسب العلامة جمال حمدان، ظلا للعرب، أى الدائرة الملاصقة لهم والمحيطة بهم، من بين الشعوب والأعراق الإسلامية المختلفة، وذلك بفعل كثافة التداخل الثقافى (الدينى والتاريخى) الذى انعكس على اللغة، حيث تركت اللغة العربية فى نظيرتها الفارسية نحو 60% من مفردات الدراسات الإسلامية المستخدمة حتى اليوم، نحو 30% من مفردات اللغة بعامة، ناهيك عن استعارة الكتابة الفارسية للشكل العربى منذ بداية التفاعل بين اللغتين. يعنى ذلك وجود شراكة حضارية بين الأمتين تجعل العلاقة بينهما أقرب إلى علاقة حبل سرى تتجلى فى أحد وجهين أساسيين: الأول ثقافى يربط أمة الدعوة الإسلامية (العرب) بأمة الإجابة (إيران). إنها العلاقة نفسها التى قامت تاريخيا بين اليونان (أمة الفلسفة والنظرية) وبين الرومان (أمة القانون والجمهورية). نعم فاق الرومان اليونان فى القوة العسكرية والتمدد الجغرافى فتمكنوا من بناء الإمبراطورية وفرض السلام الرومانى، ولكن بقى العالم اليونانى مركز احترام والفلسفة اليونانية مصدر إلهام، وقد صار الطرفان معا أحد جذرين أساسيين، مع الآخر (اليهو مسيحى)، فى تكوين الغرب الحديث. والثانى إستراتيجى بين مركز غاز وإن تراجعت قوته نسبيا (العرب) وبين طرف مغزو ازداد ثقله تدريجيا (إيران)، وهى ذاتها علاقة أوروبا بالأمريكتين تقريبا. فأوروبا اكتشفت العالم الجديد ولكن العالم الجديد صار أكبر ثقلا من أوروبا، خصوصا فى حالة بريطانيا والولايات المتحدة. فالأولى تبقى الدولة الأم، أما الثانية فصارت هى الدولة القطب. الأولى مصدر إلهام والثانية مركز سيطرة. الأولى قوة ثقافية والثانية قوة إمبراطورية. وفى كلتا الحالتين، مرت العلاقة بين الطرفين بحالة صراع عسكرى (حرب الاستقلال) قبل أن تستقر على قاعدة فهم عقلانى لحدود القوة وممكنات التجانس، وهذا ما يفترض أن يحدث، وسوف يحدث مستقبلا بين العرب وإيران، عندما يكتمل للطرفين أمران: أولهما: الرشد العقلانى الكامن فى الحداثة، حيث تغيب الكفاءة فى إدارة التناقضات وتعظيم التوافقات، سواء بحكم الاستبداد السياسى المهيمن على العالم العربى السنى، والاستبداد الدينى المهيمن على المجتمع الإيرانى، المحكوم بحاصل جمع مفهومى: الولى الفقيه، وأم القرى. يستدعى مفهوم الولى الفقيه من الذاكرة التاريخية صورة البابا المعصوم (إنوسنت الثالث) فى القرن الحادى عشر الميلادى، عندما أصدر فى أكتوبر 1066م، وثيقة تنص على المبادئ الستة لعصمة البابا على النحو التالى: البابا هو الذى يضع القوانين الجديدة كل أمراء الأرض يقبلون قدميه البابا مقدس، لا يذنب ولا يأثم ليس لأحد أن يحاكم البابا إن كل فرد يحتمى بالبابا لا يمكن الحكم عليه البابا لا يخطئ ولا يمكن أن يخطئ. فالولى الفقيه، باعتباره نائبا للإمام الغائب، مالك الحقيقتين الروحية والسياسية، يتمتع تقريبا بسلطات البابا، فالأخير معصوم غير قابل للخطأ، والأول مهيمن، غير قابل للمساءلة. أما مفهوم أم القرى فيستدعى من الواقع المشهود دولة الفاتيكان، كدولة دينية وقبلة روحية للعالم الكاثوليكى كله، ولكن ميزة الفاتيكان أنه دولة صغيرة، ليست لها مصالح سياسية ولا تناقضات إستراتيجية مع أى طرف، بل فقط مجرد حدود جغرافية لفكرة روحية، بل إنها تصالحت مع العصر عندما اعترفت بالعلمانية فى المجمع الفاتيكانى الثانى (1962 1965) فلم تعد قيدا على التعايش الدينى ولا التطور السياسى نحو الحداثة. أما إيران التى تعتبر نفسها (أم القرى) فلا يتوافر لها معالم القبلة الروحية الدينية، الموجودة أصلا فى الحجاز لكل المسلمين، بل وفى النجف وكربلاء لعموم الشيعة. وفى المقابل، تتوافر لها كل متطلبات الدولة القومية ذات المصالح الدنيوية السياسية والإستراتيجية، ومن ثم ينبع خطر اختلاط المصلحة القومية بدعاوى القبلة الروحية. مثل هذا الاختلاط كان قد دفع أوروبا إلى آتون الحروب الدينية لنحو القرن ونصف القرن بين الكاثوليك والبروتستانت، ثم بين الطوائف البروتستانتية نفسها، فلم يخرج الجميع من تلك المحرقة إلا مع صلح وستفاليا الذى كرس للدولة القومية (1648). والحقيقة أن التناقض المذهبى السنى الشيعى لم يبلغ من الحدة أبدا مستوى ذلك التناقض المذهبى المسيحى، فلم يعرف تاريخنا الإسلامى ما يشبه الحروب الدينية، ولا تكاد الفتن المذهبية بين السنة والشيعة تقترب من حجم الدماء التى سالت على حدود المذاهب المسيحية طوال قرن ونصف القرن، قبل أن تستعيد أوروبا حكمتها وتجانسها بتراكم مثل الحداثة السياسية وقيم عصر التنوير التى أذكتها الثورة الفرنسية، وذلك على العكس من التناقض السنى الشيعى، الذى يبقى أقل حدة فعليا من نظيره الكاثوليكى البروتستانتى، لكنه استمر مزمنا بطول الزمن الحديث، ولا يزال حتى اللحظة الراهنة يدار بروح بدائية تفاقم من أعبائه. وثانيهما: الشعور بالجدارة التاريخية، فالمعروف أن الأمم فى لحظات عجزها وتخلفها فى مواجهة الآخر الحضارى وهو هنا (الغرب المسيحى) إنما تشعر بنوع من ضعف الثقة بالذات، فتصبح أكثر هشاشة نفسيا، وأقل استقلالية سلوكيا، ربما تتحدث عن أعدائها كثيرا ولكنها تتصرف عمليا كتابع، تنظر فى عين الآخر النقيض قبل أن تتصرف إزاء الشريك والقريب. والحق أن العرب والإيرانيين يتعاملون بنفس المنطق مع بعضهم، إذ يتفاعلون من خلال الوسيط الغربى، وينظران إلى بعضهما عبر مرآته، ومن ثم يعجزان عن التعامل معا بثقة واستقلالية، يصبران على كل تناقض معه وكل ظلم يقع منه ولو كان كبيرا، فيما يبديان ضيق صدر ورغبة فى الانتقام من بعضهما البعض على إثر كل تناقض ولو كان بسيطا، فكلاهما يحتقر الآخر فى أعماقه، ولا يثق بنفسه، ويُعظِّم الغرب ويتنازل له ويتراجع أمامه، حيث يتعاضد هنا أثر ابن خلدون عن عقدة تقليد المنتصر والذوبان فيه، مع عقدة البراء من الحرج أمام المكافئ والنظير، فأمريكا قطب عالمى لا يثير التنازل أمامه حرجا سواء للعرب أو إيران، أما تنازل العربى لإيران أو العكس، فينال من الكرامة ويحرج الأنفس فى ظل حالة التكافؤ المفترضة، وهى سمة نفسية خطيرة تفعل فعلها فى الدول والأمم كما فى الأفراد، على نحو يجعل من الإرث الحضارى المشترك عبئا على الواقع وليس حاملا له، يثير الحساسيات أكثر مما يوفر التلاحمات ويذكى التضامنات، وتلك هى سذاجة الوعى التقليدى أمام دهاء الحداثة. [email protected] لمزيد من مقالات ◀ صلاح سالم