أنا أستاذ جامعى أقترب من سن السبعين، نشأت فى أسرة ريفية بسيطة لأب فلاح وأم ربة منزل، وعرفت أبى رجلا طيبا يحبه كل الناس لكنهم لا يلتقونه فى منزلنا، وتقتصر علاقتهم به على الجلسات التى تجمعهم فى منازلهم وربما لا يزوروننا إلا فى المناسبات، أما السبب فهى أمى التى كرهها كل من تعامل معها، وخصوصا الجيران، فكانت تكنس الحارة التى يقع فيها منزلنا، ثم تلقى بالقمامة فى مدخل منزل جارتنا، فتزيل صاحبة المنزل القاذورات التى ألقتها أمى دون أن تتفوه بكلمة واحدة، لأنها إن فعلت ذلك فسوف ينالها من أمى سباب وشتائم قاسية، ولذلك تؤثر السلامة، وتعاود أمى الكرّة كل يوم بلا كلل أو ملل، وكأنها تتلذذ بإيذاء الجيران، وتشعر بنشوة الانتصار عليهم لأنهم لا يجرون على عتابها فيما فعلته، كما يعرفون أن أبى لا حول له ولا قوة أمام جبروتها الذى ليس له حدود!. وانعكست تصرفاتها علينا، أنا وشقيقاتى الثلاث، فلم يدخل بيننا صديق ولا صديقة، وتحاشى الجميع الاقتراب منا، فأصبحنا جميعا بحالة انطواء، وصاحبت زملاء من قرى أخرى لا يعرفون شيئا عن طباع أمي، ورفضت زيارتهم فى بيوتهم لأننى سأضطر إلى دعوتهم لزيارتى فى بيتي، وهذا مستحيل فى وجود أمي!، واكتفينا بلقاءات المدرسة، ثم الجامعة التى وجدت فيها سلواى وتخرجت فى كليتى بتقدير مرتفع أهلنى للعمل فى جهة كبري، وواصلت دراساتى العليا وحصلت على الماجستير والدكتوراة، وتزوجت شقيقاتى فى قرى مجاورة لقريتنا من شباب يتميزون بالأخلاق الحميدة، ومن أسر هادئة ومستقرة. وطوال تلك السنين لم أقترب من أى فتاة، إذ رأيت فى كل النساء صورة أمي، وظل «المشهد القديم» وهى تؤذى كل الجيران عالقا بذهني، ولم يكن أبى قادرا على كبح جماحها، ولا إثنائها عما تفعله بالآخرين، فعاش معها فى صمت مغلوبا على أمره أمام جبروت أمي، فهى سيدة البيت والآمر الناهى فيه، وشيئا فشيئا وجدت شقيقاتى يصنعن مع أزواجهن صنيع أمي، فذهلت مما يفعلنه، وحذرتهن من مغبة هذا الأسلوب على حياتهن مع أزواجهن لكنهن بتأثير أمى نفذن تعليماتها وصارت لكل منهن الكلمة العليا فى بيتها!. ومرض أبى بعض الوقت، وأخذت إجازة من عملى ولازمته واقتربت منه كثيرا، وحدثنى كثيرا عن أمي، وقال لى إنه كان بإمكانه أن يتزوج عليها أو أن يطلقها لكنه لم يفعل ذلك حفاظا على البيت، وقد ندم على صمته إزاء أفعالها بعد فوات الأوان، وقال لى إنها طيبة ومشكلتها العصبية، وربما تكون مصابة بحالة نفسية، وقد اشتد به المرض، ونقلناه إلى المستشفى عدة أيام ثم رحل عن الحياة، وحزنت عليه حزنا شديدا، فلم يكن لى فى الدنيا سواه، وكان صديقا لى، بعد أن فشلت فى تكوين صداقات. وتعديت سن الثلاثين وأنا عازب، ورفضت كل محاولات أمى لتزويجى بإحدى بنات أقاربها خشية أن يكررن مأساتها معي، خصوصا أن البلدة كلها تعرف جبروتها الذى صار مضرب الأمثال فى إيذاء الجيران، والتعامل الفظ مع الآخرين.. وبعد تفكير طويل طرقت باب فتاة من محافظة مجاورة رشحها لى أحد زملائى فى العمل، والتقيت أهلها، ووجدتهم أناسا طيبين، ولم يغالوا فى طلباتهم من باب أنهم يشترون «رجلا»، وقالوا لى أنهم مطمئنون لما سمعوه عن أخلاقى الطيبة، وتفوقت فى عملي، ودراستي، وتزوجتها فى منزل آل إليّ بالميراث من أبي، وبعيدا عن أمى التى تعيش فى البيت القديم، والحق أننى وجدتها زوجة مثالية مطيعة، تمتثل لما أطلبه منها، ولا يسمع لها أحد صوتا، وربطتها علاقة طيبة بمن حولها، لكن خوفى من أن تتحول إلى شخصية أمى خصوصا بعد أن يحكى لها الجيران ما كانت تفعله معهم، جعلنى فظا فى معاملتها، وقاسيا فى الحكم عليها، ولو فى تصرف بسيط، وانعكست حالة الاكتئاب التى لازمتنى طوال حياتى عليها، فمنعتها من زيارة صديقاتها بل وحددت لها مواعيد متباعدة لزيارة أهلها، وغالبا فى المناسبات فقط، واستمرت الحال كذلك ست سنوات أنجبنا خلالها ثلاثة أبناء «ولدا وبنتين»، ثم حدثت مشاجرة بيننا بعد أن عدت من عملى ذات يوم ووجدتها جالسة مع جارة لنا، وهنا انفجرت فيّ وقالت «إننى إنسان لا يطاق»، وأن أهلها أخطأوا لأنهم لم يسألوا عني، ثم طلبت الطلاق، وألقيت عليها اليمين فى الحال، وتركت لها المنزل، عائدا إلى أمى التى أصابها الوهن ولازمها الصمت، ولم تعد تنطق بكلمة واحدة، وأشفقت عليها، فلم أفاتحها فى شيء. وفى تلك الفترة قرأت إعلانا فى إحدى الجامعات تطلب مدرسا فى تخصصي، والتحقت بالسلك الجامعى بعد أن قدمت استقالتى إلى الجهة التى أعمل بها، وخلال سنتين أقمت شقة جديدة فى منزلي، وتزوجت فيها بأخري، وللأسف تكرر ما حدث مع زوجتى الأولى بتأثير «المشهد القديم» لأمى بعد أن أنجبت منها ولدا، وطلقتها بعد سنوات، وعدت إلى أمى من جديد، وقد صارت قعيدة لا يزورها أحد، وتناوبت شقيقاتى على خدمتها، وخدمتي، ثم رحلت عن الحياة.. ومرت الأيام وتباعدت زيارات شقيقاتى لي، وكبرت سني، ولم أعد قادرا على الذهاب إلى الجامعة، أما أبنائى فسافر منهم من سافر إلى الخارج، وصارت لهم بيوت مستقلة، ونسوا أن لهم أبا. لقد أصابتنى وعكة صحية منذ شهور، واكتشفت أننى أصبت بالسرطان فى أجزاء متفرقة من جسدي، وأخضع للعلاج الكيماوي، وأشعر أن نهايتى قد اقتربت، ولم يعد أحد يسأل عني، وقد استعنت بأحد الجيران ليكون ونيسا لي، والحق أننى وجدت فى أسرته شهامة لم أعهدها من قبل، وقد بددت كل ما علق بذهنى من أفعال أمى سامحها الله، وأعترف بأننى أخطات فى حق أبنائى ومطلقتيّ، وأرجوهم أن يسامحونى وأنا على فراش الموت، ولعل الجميع يستوعبون هذا الدرس الثمين، ولا حول ولا قوة إلا بالله. ولكاتب هذه الرسالة أقول: فى رسالتك مشاهد عديدة تحتاج إلى وقفة لتحليلها والتأمل فيها والاستفادة من دروسها وعبرها، وليس المشهد القديم لوالدتك التى دأبت على إيذاء الجيران فقط، فمن المشاهد التى استوقفتني، ولم أجد لها تفسيرا، مشهد أبيك الذى استسلم لإملاءاتها، وسايرها فيما أرادته، وصار أمام أهل البلدة رجلا مهزوما خاضعا لزوجته، فهناك فرق كبير بين «الطيبة» و «الانهزام»، فلو أنه وضع حدا لتصرفاتها غير المقبولة منذ البداية، لامتثلت لأوامره، واستجابت لنداء العقل والحكمة، فمن طبيعة المرأة أنها تتعود على حياتها الجديدة بعد الزواج إذا وجدت مقاومة من زوجها لتصرفاتها القديمة فى بيت أبيها، فمسألة إيذاء الآخرين من الواضح أنها كانت مغروسة فيها، ولم تكن وليدة ظروف طارئة، أو حالة نفسية ألمّت بها، ولذلك كان الواجب على أبيك أن يكون حاسما معها، فيخبرها بين معاملة الآخرين الحسنة، أو الانفصال عنها، ولو فعل ذلك لما بلغت بها الحال التردى الذى وصلت إليه. ومن المشاهد أيضا مشهد شقيقاتك الثلاث وقد تقمصن شخصية أمهن، وفعلن لأزواجهن ما فعلته أمك مع أبيك، ولا أدرى كيف ساير أزواجهن هذا السلوك غير الطبيعي، ولماذا تقبلوا الخضوع لهن؟.. إننى قد أتفهم أن يكون أخوهم بنفس تركيبة أبيك.. لكن أن يكون الثلاثة على شاكلته، فهذا ما يحتاج إلى مزيد من التفاصيل للوقوف على أبعاد هذه «التركيبة العجيبة». أما المشهد الأكثر غرابة، فهو مشهدك مع زوجتيك السابقتين، فخوفك من أن تصنعا معك صنيع أمك وشقيقاتك مع أزواجهن هو الذى دفعك إلى تقمص شخصية مغايرة لما تربيت عليه، وصرت أنت الذى تفتعل المشكلات، وكانت النتيجة أنك خربت بيتك، وشردت أولادك، وشغلتك نفسك عنهم، فأى حماقة هذه يا سيدي؟.. لقد أخطأت كثيرا فى حقوقهم، ويكفى أنهم تربوا بعيدا عنك.. قد تقول لى أنك الذى صرفت عليهم وتحملت مسئوليتهم المادية، ولكن المادة ليست كل شيء، إذ يكفى الابن لمسة حنان من أبيه، وكلمة حلوة يقولها له، ونصيحة يسديها إليه.. إن الأبناء دائما فى حاجة إلى الأب، ومن مات أبوه فى صغره يتلمس النصائح فى أقاربه، فما بالنا لو أن الأب حى لكنه لا يعير أبناءه اهتماما بعد أن انفصل عن أمهم بتأثير أوهام عالقة بذهنه، فسلوك أمك رحمها الله لا يعنى أن كل النساء مثلها، ولا ما فعله أبوك يعنى أن كل الآباء يسلمون الحبل على الغارب لزوجاتهم.. إنها مسألة استثنائية، وهو ما يجب أن يعيه الجميع. ما أقوله لك الآن يا سيدى هو أن ما مضى فات، ولك الساعة التى أنت فيها، فحاول استعادة علاقتك بأبنائك سواء كانوا فى الداخل أو الخارج، وأرجوهم أن يصلوك، وأن يسامحوك على بعدك عنهم، فأنت أبوهم، وهم يحملون اسمك، كما أرجو من مطلقتيك أن تدركا أن دوام الحال مستحيل، وأن الإنسان كلما قدم الخير أثابه الله من فضله الكثير.. فلتجمعا أبناءكم، ويكونوا جميعا بجوارك فى هذه الأوقات العصيبة.. فالعمر قصير مهما طال، ولا تبقى إلا الكلمة الطيبة والفعل الحسن، وسبحان من له الدوام.