الله عليكِ يا حضرة المستشارة ميركل . لقد جِبتِ من الآخر فى جملتين اثنتين فلا فُض فوكِ. نعم.. لخصت السيدة ميركل مستشارة ألمانيا معنى الاستقامة والخُلُق القويم فى هاتين الجملتين، وذلك فى خطابها بجامعة هارفارد وهم يمنحونها الدكتوراه الفخرية قبل أيام.. فماذا قالت؟ قالت: يجب أن نتحرى قول الحقيقة دائما تجاه الآخرين، وتجاه أنفسنا، ويتضمن ذلك ألّا نسمى الأكاذيب حقيقة ولا نسمى الحقيقة كذبا. ثم قالت: مهما تكن الضغوط عليك لا تتبع مشاعرك الأولية وأنت تتخذ القرارات بل فكِّر للحظات وامنح نفسك فرصة للتأمل. يا عينى على الجمال والدماغ العالية. تعالوا معا نفصص ونفصل ما أجملته تلك السيدة الراقية. لا تكذب.. أليست تلك هى وصية الوصايا، وأم النواهى، فى الديانات جميعها منذ خلق الله تعالى الأرض ومن عليها وأنزل الكتب.. فما بالنا هذه الأيام بتنا نكذب كما نتنفس؟ طبعا سيادتك, وأنت المجادل العنيد فى المجادلة, سوف تسأل بذكائك المعهود: يعنى ألا تكذب ميركل؟ كيف وهى السياسية المخضرمة؟ ألم يعوّدنا سياسيو العالم عبر التاريخ على الكذب.. فلماذا أصدقها إذن؟ يا سيدى خذ بالنصيحة ولا تشغل نفسك بقائلها. ألم يرد الخليل بن أحمد على منتقديه بالقول: يا أخى خذ بعلمى ولا تعمل بعملى؟ ما المشكلة.. السِّت قالت كلمتين حلوتين.. كن ذكيا واستفد منهما وأنت الكاسب. طيب.. ما المشكلة فى أن يظل المرء منا يكذب على زوجته وعياله وأخيه وجاره وزميله ورئيسه فى العمل؟ وما الخطورة فى أن يكذب الإنسان فيدلِّس ويقلب الحقائق إلى أكاذيب ليشربها الآخرون كالماء العكر؟ ياااااه.. إن خمسمائة ألف مصيبة يمكن أن تترتب على الكذب يا خال. الأولى: أن مشكلاتنا ستتوه فى بحر لُجى من الأكاذيب فتتضخم وتكبر فلا نعرف لها بداية من نهاية.. ومن ثم تتراكم لتصبح مستنقعا آسنا عطنا ننغرس فيه حتى الرقاب لتتحول حياتنا - والعياذ بالله - إلى جحيم. ..والثانية: أننا بالكذب سيفقد كل منا الثقة فى الآخر، فلا يصدق أحد أحدا أبدا.. وساعتها سوف نحتقر أنفسنا ونحس طوال الوقت بأننا ناس موش تمام.. وبالتالى سنمشى ورءوسنا دائما إلى الخلف توجسا من طعنة غادرة تأتينا من هنا أو هناك.. فهل تسمى هذه حياة؟ تخيل لو أن أمة من الأمم (وقانا الله الشر) كل من فيها من التجار والموظفين والأطباء والمدرسين والإعلاميين وسدنة القانون يكذبون حتى يصير الكذب طعامهم اليومى والشراب فهل يمكن أن يطيب لهؤلاء (حتى الأثرياء منهم) أى عيش؟ ..والثالثة: أن الكذب ينجب الخوف.. وأنت عندما تخاف فإن كل ما فيك سوف يرتعش.. وكما هو معلوم فإن العقل المرتعب الخائف لا يستطيع التطور ولا الإبداع.. وإن اليد المرتعشة لا يمكنها اتخاذ القرار. إن الكذب يؤدى إلى التضليل والتعمية والتوهان فكأننا مساطيل.. ولهذا نظر الفقهاء وعلماء الاجتماع والأخلاق إلى الكذب بحسبانه آفة الآفات وأم الكبائر جميعا. هل عرفتم الآن لماذا طالبت ميركل مستمعيها فى هارفارد بألا يسموا الكذب حقيقة أبدا؟ الآن نروح إلى النصيحة الثانية للألمانية الشاطرة المثقفة. قالت ميركل: لا تتبع مشاعرك الأولية وتأمّل قليلا قبل أن تتكلم أو تتخذ القرار. يعنى إيه؟ يعنى يا عمنا لا تمشِ وراء انفعالاتك البدائية؟ قل لى: ما هى مشاعرك الأولية؟ إنها ما يصدر عن حواسك من ردود أفعال أولية سريعة. وطبعا أنت تعرف أن الحواس عندنا خمس؛ البصر والسمع والشَمّ واللمس وما يتذوقه اللسان. إن استخدام الحواس يؤدى إلى استجابات عفوية فورية سريعة. مثلا أنت عندما ترى بعينيك منظرا ما فإنك ستصدر عنك بسرعة ردة فعل ما.. وهكذا فى السمع والشم وغيرهما. سيادة المستشارة تنصحك بألا تكن عجولا.. ولا عبدا لردة فعل حواسك.. بل تأمل قليلا قبل أن تتصرف.. وهذا بالضبط هو الفرق بين الإنسان ولا مؤاخذة الحيوان. إنها تقول لك: كن إنسانا ذكيا.. أليس الإنسان هو الكائن الوحيد من مخلوقات الله الذى منحه الله حرية التفكير؟.. يا أخى فكّر! إن الكثير من مآسينا ومصائبنا، بل وكوارثنا السابقة والآنية، إنما هو نتاج لخضوعنا لمشاعرنا البدائية الأولية التى كم أوردتنا موارد التهلكة؛ ومنها الغضب السريع المنفلت بلا مبرر، والعصبية، والغيرة، والاستعجال فى الحكم على الآخرين من أول نظرة وبدون رويّة، وتصديق كل ما يقال لنا بحسن نية، والخضوع لانفعالاتنا الصاخبة تحت ضغط كل ما هو غرائزى وشهوانى وبدائى ( ويودّى فى ستين داهية) ! اسمع .. أنت لن تصنع حضارة ولن تبنى أمة بدون هاتين النصيحتين الغاليتين اللتين لخصتا كل مفاتيح بناء الحضارة. لا تكذب.. ولا تنهزم أمام مشاعرك البدائية الأولية. منع الكذب سيؤدى إلى الثقة، وإحساس الناس بأن الذى يتعبون فى بنائه إنما هو لهم ولأبنائهم من بعدهم، ومن ثم سيرتفع البناء، ويعم الرخاء، وتشيع السعادة.. وبالنسبة للتوقف عن الخضوع للأحاسيس الأولية فهذا سوف يشيع فى المجتمع التفكير الهادىء العلمى الرزين بعيدا عن التفاهة والسطحية واللهوجة والعشوائية . ميركل, أمام مريديها فى هارفارد, كانت فى رأسها كل تلك المعانى وهى تنطق بكلماتها الخفيفة على اللسان الثقيلة على القلب.. ونعلم بالتأكيد أن الألمان معروفون بالدقة الشديدة فى كل شىء، وبالانضباط الصارم، ومن ثم لم يكن غريبا أن ينتجوا لنا معظم فلاسفة العصر الحديث الذين رسموا للبشرية مسارات الفكر والتقدم.. فما الضير فى أن ننصت قليلا للسيدة ميركل وهى تركل بكلماتها رءوس كل الكذابين والأفاقين؟. لمزيد من مقالات ◀ سمير الشحات