كلمة المقام: عندما تقرأ بفتح الميم فمعناها المنزلة والمكانة، فإذا قرئت بضم الميم فمعناها استقرار تلك المكانة وثباتها؛ لقول الله تعالى فى كتابه الكريم «خَالِدينَ فِيهَا حَسنَتْ مسْتَقَرًّا ومقَامًا» (الفرقان آية76). فقد جاءت تلك الآية بعد الآية التى ذكرت الغرفة التى وعِد بها المتقون فى الجنة، واصفة إياها بحسن المستقر الذى ليس فيه تبديل أو تحويل، وعطف المقام على المستقر دليل على الخلود والديمومة. أما الوَلَه فذهاب العقل من شدة الوجد، الذى هو مزيج من مشاعر متباينة من السرور والحزن، كالحالة التى تصاحب الإنسان عند طربه لغناء جميل. والوله لا يأتى جملة واحدة وإنما ينتج عادة من عدة مراحل يمر بها الإنسان تبدأ بالمعرفة التى يفرح فيها الإنسان بالتعرف على حبيب يوافق نفسه ويتجاوب معه، تلك المرحلة تولد المواظبة على رؤيته والشغف بوجوده، مما ينتج عنها التعلق الشديد الذى يولد الخوف والجزع، فيتولد التفانى فى ذات المحبوب لنيل رضاه والمحافظة عليه. شدة الفرح مع الجزع تسبب الشجن الذى من فرطه يذهب بالعقل. ولم يجد قاموس لسان العرب لابن منظور حالة لتقريب المعنى للعامة إلا بحالة فقد الولد. لأنها أعظم حالات التعلق الإنساني. بينما هذا الوله لا يكون مستقرا إلا فى المقام لمن عرف المحبوب الأعظم الله فاستقرتْ حالته بين الفرح والجزع. هذا المقام عرفه المتصوفون الكبار وعلى رأسهم سيدة أهل العشق رابعة العدوية التى أقامت فيه منذ أن تدلهتْ فى حب الله. ورابعة سميت بهذا الاسم: لأنها ولدت رابعة أخواتها لرجل فقير جدا من البصرة فى القرن الثانى الهجري؛ حيث لم تحدد لنا المصادر تاريخ مولدها أو وفاتها، لكنها تؤكد أنها عمرتْ فتجاوزتْ الخامسة والثمانين عاما. وقد عاشت حياة فقر مدقع فى سنى عمرها الأولى مع والدها، فلما مات هامت على وجهها هى وأخواتها، فاستولى عليها رجل ظالم فباعها بستة دراهم فى سوق الرقيق لرجل من آل عتيك من بنى قيس. وكان سيدها هذا الذى اشتراها يسومها سوء العذاب فى حياة العبودية تلك؛ حتى تكشفتْ حجب الله عنها فى واقعة ترويها لنا المصادر بشكل أسطوري. فتقول: كانت رابعة تمضى فى طريقها فوقعت عينا رجل عليها أضمر الشر لها، فخافت منه وارتمتْ فى التراب والتجأت إلى الله فى دعاء صادق قالت فيه: إلهي! أنا غريبة يتيمة، أرسف فى قيود الرق، لكن غمى كبير؛ هو أن أعرف: أراض أنت عنى أم غير راض؟ إلى هنا يمكن قبول المروية إذا عرضناها على العقل فليس فيها شىء. فهى امرأة مشرقة بحب الله عارفة به. فلم تخف من الرجل الفاسق، بقدر خوفها من عدم قبول الله لها وربما بفضل توجهها الصادق لله فى مَقام الخوف، نجاها الله مما وقعتْ فيه. ومن يتأمل دعاءها لابد أن يربطه بدعاء الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بعد عودته من الطائف إن لم يكن بك غضب على فلا أبالى . الشق الآخر من الرواية ينبئنا بأنها سمعت صوتا يقول لها: لاتحزني, ففى يوم الحساب يتطلع المقربون فى السماء إليك ويحسدونك على ما ستكونين فيه فلما سمعت ذلك عادت إلى بيت سيدها، تخدمه وتجتهد فى الطاعات والعبادات. فتقوم الليل وتصوم النهار، حتى أعتقها سيدها. لقد التزمت رابعة مقام الوله. حتى تحررت من العبودية الدنيوية لترقى للعبودية الربانية. وأرجئ الحديث عن دلالة أسطورة هذا الخبر وأخبارها الأخرى للمقال المقبل إن شاء الله. لمزيد من مقالات شيرين العدوى