قبل الفتح الإسلامي لمصر, كانت بلادنا مع أغلب الشرق قد خضعت للاستعمار الإغريقي الروماني مدة عشرة قرون. وفي هذه القرون العشرة قهر هذا الاستعمار بلادنا سياسيا فلم يحكم مصر قبطي طوال هذه القرون , وثقافيا عندما أحل الاستعمار ثقافته الهلينية محل الثقافة المصرية ولغويا عند ماكتبت اللغة المصرية بحروف يونانية.. ودينيا عندما وقع الاضطهاد علي النصرانية الشرقية من قبل الرومان, سواء في عهد وثنيتهم أو حتي بعد تنصرهم واتخاذهم مذهبا ملكانيا مغايرا للأرثوذكسية, فاعتبروا النصرانية المصرية هرطقة, وحجبوا عنها الشرعية, واغتصبوا كنائسها وأديرتها, وطاردوا البطرك الوطني بنيامين,326 266 م] فهرب منهم ثلاثة عشر عاما قبل الفتح الإسلامي.. وفي هذا الاضطهاد الديني الذي تؤرخ به الكنيسة الأرثوذكسية كان النصاري المصريون يساقون إلي الموت بالإحراق والإغراق وطعاما للأسود والسباع.. كما كان المواطن المصري يدفع للسلطة الرومانية أربع عشرة ضريبة واستخدمت مصر سلة غذاء لمدينة روما!.. لذلك, كان استقبال أجدادنا الأقباط للفاتحين المسلمين استقبال المنقذين.. المحررين, الذين أزالوا كابوس القهر الروماني, وحرروا الاعتقاد الديني, وردوا للمصريين كنائسهم وأديرتهم المغتصبة, وأمنوا البطرك الهارب, واستقبلوه واكرموه, وأعادوه إلي كنيسته ورعيته, وأشركوا المصريين في حكم بلادهم, بعد أن حرموا منه عدة قرون. وعلي هذه الحقيقة سجل التاريخ العديد من الشهادات القبطية التي تحتاج إلي قراءة معاصرة, وإلي أن تقدم شهادة شهود من أهلها للرد علي سيل الأكاذيب والافتراءات. فالأسقف الأرثوذوكسي يوحنا النقيوس, الذي كان ثالث أساقفة الأرثوذكسية, وشاهد العيان الوحيد علي الفتح الاسلامي لمصر الذي بقيت لنا شهادته.. قد كتب عن هذا الفتح فوصفه بالإنقاذ لمصر ودينها وأهلها من قهر الرومان.. وبالعقاب الإلهي للرومان علي ما اقترفوه في مصر من جرائم وآثام شهد بذلك الأسقف يوحنا النقيوسي في كتابه, تاريخ مصر] الذي أعادت طبعه أخيرا مكتبة الأسرة فقال: إن الله, الذي يصون الحق, لم يهمل العالم, وحكم علي الظالمين, ولم يرحمهم لتجرئهم عليه, وردهم إلي أيدي الإسماعيليين , العرب المسلمين].. ثم نهض المسلمون وحازوا كل مصر.. وكان هرقل حزينا.. وبسبب هزيمة الروم الذين كانوا في مصر, وبأمر الله الذي يأخذ ارواح حكامهم, مرض هرقل ومات. وكان عمرو بن العاص يقوي كل يوم في عمله, ويأخذ الضرائب التي حددها, ولم يأخذ شيئا من مال الكنائس, ولم يرتكب شيئا ما سلبا أو نهبا, وحافظ عليها طوال الأيام. ودخل الأنبا بنيامين بطريرك المصريين مدينة الإسكندرية بعد هربه من الروم ثلاثة عشر عاما, وسار إلي كنائسه وزارها كلها. وكان كل الناس يقولون: هذا النفي, وانتصار الاسلام, كان بسبب ظلم هرقل الملك, وبسبب اضطهاد الأرثوذكسيين علي يد البابا كيرس, الذي عينه الرومان بدلا من البطرك الوطني بنيامين] وهلك الروم لهذا السبب وساد المسلمون مصر. وخطب بنيامين في ديرمقاريوس فقال: لقد وجدت في الاسكندرية زمن النجاة والطمأنينة اللتين كنت أنشدهما, بعد الاضطهادات والمظالم التي قام بتمثيلها الظلمة المارقون.. تلك هي أقدم الشهادات القبطية علي إنقاذ الفتح الإسلامي لمصر وأهلها ودينها من قهر الرومان. ولأن هذا التحرير الإسلامي لمصر والمصريين لم يكن حدثا عارضا ومؤقتا بزمن الفتح وعصر الصحابة الفاتحين, رأينا نفس الشهادة وذات الإنصاف عند مؤرخ قبطي حديث, هو يعقوب نخلة روفيلة,7481 5091 م] الذي كتب في كتابه, تاريخ الأمة القبطية] الذي أعادت طبعه سنه0002 م مؤسسة مارمرقس لدراسة التاريخ مع مقدمة للدكتور جودت جبرة .. وجدنا يعقوب نخلة روفيلة يقدم شهادته علي الفتح الاسلامي لمصر بقيادة عمرو بن العاص فيقول: ولما ثبت قدم العرب في مصر, شرع عمرو بن العاص في تطمين خواطر الأهلين واستمالة قلوبهم إليه, واكتساب ثقتهم به, وتقريب سراة القوم وعقلائهم منه, وإجابة طلباتهم. وأول شيء فعله من هذا القبيل: استدعاء بنيامين البطريرك الذي اختفي من ايام هرقل ملك الروم فكتب أمانا وأرسله إلي جميع الجهات يدعو فيه البطريرك للحضور, ولاخوف عليه ولاتثريب, ولما حضر, وذهب لمقابلته ليشكره علي هذا الصنع أكرمه وأظهر له الولاء وأقسم له بالأمان علي نفسه وعلي رعيته وعزل البطريرك الذي كان اقامه هرقل, ورد بنيامين إلي مركزه الأصلي معززا مكرما. وكان بنيامين موصوفا بالعقل والمعرفة والحكمة, حتي سماه بعضهم الحكيم وقيل إن عمرو بن العاص لما تحقق ذلك منه, قربه إليه, وصار يدعوه في بعض الأوقات ويستشيره في الأحوال المهمة المتعلقة بالبلاد وخيرها. وقد حسب الأقباط هذا الالتفات منة عظيمة وفضلا جزيلا لعمرو. واستعان عمرو في تنظيم البلاد بفضلاء القبط وعقلائهم علي تنظيم حكومة عادلة تضمن راحة الأهالي, فقسم البلاد إلي اقسام يرأس كلا منها حاكم قبطي ينظر في قضايا الناس ويحكم بينهم, ورتب مجالس ابتدائية واستئنافية مؤلفة من أعضاء ذوي نزاهة واستقامة, وعين نوابا من القبط, ومنحهم حق التداخل في القضايا المختصة بالأقباط, والحكم فيها بمقتضي شرائعهم الدينية والأهلية. وكانوا بذلك في نوع من الحرية والاستقلال المدني, وهي ميزة كانوا قد حرموا منها في ايام الدولة الرومانية.. في منتصف القرن السابع الميلادي.. شهدوا علي أن الفتح الإسلامي لمصر قد: حرر الأرض والوطن من استعمار دام عشرة قرون. وحرر الضمائر والعقائد من القهر الديني, وكان خلاصا وإنقاذا للنصرانية المصرية والشرقية. وحرر دور العبادة الكنائس والأديرة وردها إلي أصحابها, بعد أن حرموا منها أزمانا طويلة. وحرر الانسان.. وأمن الهاربين بمن فيهم البطرك الوطني بنيامين.. وأشرك أهل مصر في حكم بلادهم, لأول مرة منذ عشرة قرون. لقد أنقذ الفتح الاسلامي مصر من القهر الروماني.. فبدأت عهد الإحياء الوطني.. الذي جعلها تقدم أفضل طاقاتها وملكاتها للحضارة الاسلامية, حتي غدت منذ ذلك التاريخ مركز خلافة وسلطنة, تقود الشرق في مواجهة التحديات.