التليفزيون فى رمضان فن ومتعة و«أكل عيش» وأرزاق لملايين، وقوة ناعمة لمصر أيضا لا غنى عنها، ولكن، الوضع مقلق. الدراما التركية تصور تركيا على أنها الجنة، والهندية تقدم الهند كدولة عظمي، والسورية واللبنانية، بل والخليجية أيضا، تفرض نفسها عاما بعد آخر، وتناقش أصعب القضايا، بينما فى مصر، صناعة الدراما والإعلانات فى واد، والدولة والمجتمع فى واد آخر. بالتأكيد، لا صالح لنا فى نقد مدمر، ولكن على هذه الصناعة أيضا أن تساعدنا، وتساعد نفسها أولا، فلم تعد المشكلة الآن مجرد تراجع تأثير الدراما كقوة ناعمة، بعد أن ارتضت هذه الدراما أن تتحول إلى قوة «تشويهية»، أو قوة «خائبة»، مهما يكن المبذول فيها من جهد، ولكن المصيبة الآن أن هذه القوة تتورط بوضوح فى غرس مفاهيم وسلوكيات وتصرفات وثقافات فى عقول جمهورها، وبخاصة الأجيال القادمة، التى سيكون حالها بكل تأكيد بعد رمضان 2019، أسوأ بكثير من حالها قبل رمضان 2019، والأيام بيننا. تعالوا معنا نستعرض مثلا بعضا من الرسائل والعناوين التى نقلتها لنا مسلسلات وإعلانات هذا الموسم: -مصر ضعيفة، فقيرة، مجتمعها هش، مفكك، شعبها بيخانق دبان وشه، ويقتتل على لقمة العيش. -السلبيات مسيطرة، والإيجابيات صفر، ولا أمل فى شيء. -اللصوص ترعاهم السلطات، والفساد فى حماية حد كبير. -القانون غائب، والبقاء للأقوي، والكل فتوات، كما تنبأ الراحل توفيق الدقن! -رجال القانون يغيرون مواقفهم فى أى قضية بمكالمة تليفون من فوق! -الأغنياء ورجال الأعمال فاسدون، وجرائم الفقراء مبررة! -المنطقة بين ميدان الجيزة وحدود مصر جنوبا خارج إطار القانون والنظام والزمن! -السلاح بأنواعه، من مطاوى ومسدسات ورشاشات، فى متناول الجميع، وكأننا سوريا أو ليبيا، أو تكساس! -القتل أسهل من شكة الدبوس، و«الروسية» و«الشلوت» و«الخطافية» لغة حوار بين المختلفين! -تاجر المخدرات عضو عامل فى المجتمع، والبانجو لا يختلف كثيرا عن القهوة، وتوفير الاستروكس أسهل من شراء باكو مناديل! -لكل مصرى «رجالته»، لزوم الخناقات والخطف والذى منه! -الهروب من الأهل حل أمثل للحرية والبحث عن الذات والتخلص من عقليات الكبار. -غياب البنت عن منزلها وأسرتها لأيام أمر لا قلق منه، فقد تغيب ابنتك عن المنزل، وتمارس حياتك بصورة عادية، فتجلس فى البلكونة تشرب الشاى وترتدى البيجاما وتستقبل الضيوف! -وصية المتوفى ورقة لا قيمة لها، والميراث حق مشروع يجوز نهبه، وأكل مال اليتامى والنساء «مرجلة»! -فتى أحلام البنات، رجل فى السبعين، أو الثمانين! -العريس «اللقطة» لا يشترط فيه الدين والأخلاق والعائلة، يكفيه امتلاك شاليه تايم شير! -الشقة المثالية والعادية للأسرة المصرية لم تعد أوضتين وصالة وعفشة مية، فلابد من «تراس» و«فيو» وبحيرة صناعية، ويا حبذا لو ملعب جولف أو اسكواش! -التكييف شرط أساسى من شروط إتمام الزيجات، والنزول لشرائه قرار سهل لا يختلف كثيرا عن النزول إلى محل البقالة «تحت بيتكم» لشراء علبة زبادي! -هدية الزوج لزوجته ليست فستانا أو خاتما أو حتى «كيلو كباب»، فأقل شيء يرضى المدام فيلا فى الساحل الشمالي! -الثقة والقوة لا تأتيان من العمل أو العلم أو النجاح أو الإيمان أو الأخلاق، ولكن تأتى من «الغيارات الداخلية».. والله العظيم هذا ما يقوله أحد الإعلانات! -الشتائم بالأب والأم و«الميتين» وسب الدين عند الغضب حق مكفول للجميع، وتحطيم السيارات أيضا، المهم أن تكون السيارة «مش بتاعتنا»! -غسيل أموال الإرهاب ممكن و«حلال»، لو كان ذلك فى أوجه الخير! قبل 2011، تعلم المصريون من المخرج إياه كيف نقتحم قسم شرطة، وكيف نطلق سراح سجناء، وكيف نسطو على قطار بضائع. وفى 2011 نفسه، وما بعده، ساد قانون الغاب لسنوات، فخرج علينا من يطبق ما شاهده فى أفلام «البيه» المخرج بالحرف، فكان اقتحام الأقسام، وإطلاق سراح الإرهابيين والمجرمين وأصحاب السوابق، وكانت سرقة المولات، وإحراق المنشآت، وتثبيت الناس فى الشوارع، وعانينا، وعانت الدولة كثيرا، لكى تصحح الأوضاع. أما الآن، فالغلطة تتكرر، ونحن نصفق، ونضحك، ولا نفعل شيئا، ولهذا، انتظروا مجتمعا مختلفا كلية بعد انتهاء موسم دراما وإعلانات رمضان 2019، وساعتها، يجب ألا نلوم إلا أنفسنا، عندما نكتشف بعد فوات الأوان الحقيقة المؤلمة، فلا قوتنا الناعمة ظلت ناعمة، ولا هى وقفت فى ظهر الدولة، ولا هى عكست صورة حقيقية لمجتمع ينهض ويتعافى ويتقدم، ولا حتى عالجت قضية أو مشكلة عليها القيمة، بل قدمت رسائل مدمرة، وكان عدمها أفضل، فمصر التى فى الدراما والإعلانات شيء، ومصر نفسها شيء آخر تماما! لمزيد من مقالات هانى عسل