المرأة أول المؤمنين والشهداء وصانعة الحضارة الإسلامية.. و«القوارير» أحد مفاتيح الجنة كيف يخالف المتطرفون و«دعاة جهاد النكاح» تعاليم الإسلام حول النساء؟ حكاية "قلادة" خديجة و"غيرة"عائشة.. والمرأة تأخذ بأيدى حمزة بن عبد المطلب وعمر بن الخطاب الى الإيمان هدوء مفرط يكاد يسمعك نبض الدم فى العروق، سكون يحفه الجلال فى غار معزول بقمة جبل، أحد أحفاد إبراهيم، دأب على أن يحيا فى طهر، ويتأمل فى أناة، ويتفحص فى فطنة، ويتعبدفى تقوى، «متبتل» أرقه السهاد واللوعة، فجاءه همس القدر فى أذن المستقبل، هبط سفير السماء، يحمل نور الله، وثيقة رشد للبشرية، أعلنت السماء مصطفاها، صار محمد بن عبدالله رسول رب العالمين، تغير كل شىء إلى أبد الأبدين، كيمياء الزمان، كيمياء البشر، كيمياء الحياة، صال الإيمان صولته المباركة، فترنح الكفر وهوى الباطل. «شحنة النور» الآتية من السماوات العلى، فوق الطاقة، مع أن (المختار) جرى إعداده بعناية، أراد له المولى أن يكون على يديه خلاص العالم، أن يحمل كلمة الله، فى نبوة راشدة وحجة قائمة ورحمة مهداة، مع ذلك لم يكن لقاء محمد مع الأمين جبريل يسيرا، قال له: اقرأ.. وضمه إليه حتى بلغ منه الجهد مبلغه- لاحظ أنه قال: اقرأ، ولم يقل: صل أو صم أو.. إنها بداية حضارة مؤسسة على القراءة والعلم والمعرفة- ضمه ثلاثا، كانت أقرب به إلى الموت، ليحتمل عبء الرسالة وأهوال النضال، ويكون قادرا على استيعاب القوة الإلهية الجديدة والمدد العلوى الربانى، ثم ألقى إليه بالبشارة: يا محمد أنت رسول الله، يغشاه فى المشهد ما يغشاه، يغيب الملك، فيقتلع محمد أقدامه فوق الرمال، يبلغ داره، يلقى جسده المرتجف على حجر زوجته خديجة بنت خويلد وبين يديها، يحكى لها ما جرى. ذهبت إلى أحد حكماء زمانها ابن عمها ورقة بن نوفل، تتثبت مما حدث، ثم عادت لزوجها بما يبث الطمأنينة فى قلبه ويبشره بدوره الزاهر فى مستقبل الإنسانية، إنه رسول الله، كعيسى وموسى عليهما السلام. ما فعلته خديجة جدير بسيدة اختارها القدر لتكون قرينة لرسول رب العالمين، يطيل المستشرق الفرنسى البارز إميل درمنجم فى كتابه (حياة محمد) الحديث عن موقف خديجة، حين جاءها زوجها من غار حراء، خائفا مقرورا غريب النظرات، فترد إليه السكينة، وتسبغ عليه ود الحبيبة وإخلاص الزوجة وحنان الأم، تضمه إلى صدرها قائلة: «إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقرى الضعيف، وتعين على نوائب الحق، فلن يخزيك الله أبدا». فاقت خديجة النساء والرجال إيمانا، وطوقت رقبة كل مسلم إلى يوم الدين بجميل صنيعها!!. تتفق كتب السيرة النبوية على أنها طلبت من الشاب محمد العمل فى تجارتها، ولما رأت حسن أخلاقه وصلاحه وعفته وأمانته، تزوجته برغم فقره، مؤثرة إياه على أغنياء قريش وعلية القوم الراغبين بالزواج منها، إعجابها بشخصه كان أعظم وأعمق، مثلما يذكر الأصبهانى فى (دلائل النبوة)، ثم كانت أول من آمن بدعوة الرسول إلى الإسلام، قبل جميع البشر، صدّقته حين كذبه الناس، وآوته حين طردوه، أنفقت عليه من مالها حين تفَرغ لأمر الرسالة، لا يسمع شيئا يكرهه أو يحزنه إلا فرج الله عنه بها، كأن الله خلق محمدا وخديجة، قصة حب حقيقى، لتأتم بهما الدنيا كلها، ويأتم بهما كل حبيبين، كل زوجة وزوج يريدان إصلاحا وفلاحا. لدرجة أن المستشرق مرجليوث يؤرخ فى كتابه (محمد وظهور الإسلام) لحياة الرسول باليوم الذى لقى فيه خديجة، بينما يؤرخ لهجرته إلى يثرب باليوم الذى خلت فيه مكة من خديجة. عندما بدأت المحن القاسية تتوالى على المسلمين، وقفت خديجة كالجبل الأشم ثباتا وإصرارا، اختار الله ابنيها القاسم وعبدالله، وهما طفلان، فصبرت واحتسبت، وودعت ابنتها رقية وزوجها عثمان بن عفان وهى تهاجر إلى الحبشة.. وشاهدت إصرار زوجها على الثبات على الحق وعدم التنازل ولو قيد أنملة، فوقفت– وعمه أبوطالب- مع الرسول بكل ما لديها من مال وجاه واقتدار. طاش صواب الوثنية، صب الكفار العذاب الوحشى صبا على رءوس المؤمنين، قاطعت قريش المسلمين وحاصرتهم، فلم تتوان خديجة فى الوقوف معهم، تخلت عن دارها لتمضى فى الشعب ثلاث سنين صابرة مع الحبيب صلى الله عليه وسلم، تكابد الجوع والفقر والظمأ، وهى الغنية الشريفة، حتى تهاوى الحصار. ولعظيم صنعها وكريم خصالها، بشرها الله عزوجل بالجنة، فقد أتى جبريل إلى النبى، وقال: «يا رسول الله، هذه خديجة قد أتت معها إناء فيه طعام، فإذا هى أتتك فاقرأ عليها السلام من ربها ومنى، وبشرها ببيت فى الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب». خديجة هى الحب الأول الذى مازج قلب محمد، أحبها بكل جوارحه، سطرت فى قلبه ومخيلته اسمى أنواع التفانى والتضحية للحبيب، عاشت أيامه حلوها ومرها، قال عنها النبى الكريم: «أفضل نساء أهل الجنة خديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد، ومريم بنت عمران، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون». لم يتزوج الرسول عليها غيرها حتى وفاتها، سمى العام الذى رحلت فيه -هى وعمه أبوطالب- عام الحزن، ثم وقف وحيدا يتحسس ألم الفراق، ذكراها فى قلبه شمعة لا تنطفئ، كان يذكرها ويفضلها على سائر زوجاته، حتى إن السيدة عائشة قالت: ما غرت من أحد من نساء النبى كما غرت من خديجة وما رأيتها، ولكن النبى يكثر من ذكرها، وربما ذبح الشاة ثم يقطعها ويبعثها، فى صدائق (صاحبات) خديجة، قالت له يوما: كأنه لم يكن فى الدنيا إلا خديجة.. وعلى الفور رد النبى المتيم: «إنها كانت وكانت، وكان لى منها ولد». وبرغم حبه الشديد لعائشة فإنه كان أشد حبا لخديجة من سائر نسائه، صحيح أنها فارقت الحياة لكنها ما فارقت روحه طرفة عين واحدة. يسوق ابن هشام فى (سيرته) أنه عقب غزوة بدر أراد المشركون أن يفتدوا أسراهم، وكان منهم العاص بن الربيع زوج السيدة زينب ابنة الرسول، برغم أن الإسلام فرق بينهما، فأرادت (زينب) أن تفتدى زوجها، لعل الله يشرح صدره للإسلام. وبعثت فى فدائه بمالٍ ووضعت فيه (قلادة) السيدة خديجة، فلما وقعت عينا النبى على قلادة محبوبته رق بشدة، واستسمح أصحابه: «إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها، وتردوا عليها مالها فافعلوا، فقالوا نعم يارسول الله، ففعلوا». انظر كيف أججت (قلادة) خديجة مشاعره– صلى الله عليه وسلم– فرق لها، وأخذ يستسمح صحابته أن يطلقوا لزينب أسيرها، فأشفقوا عليه.. ولما لا؟!.. فهى قلادة لامست يوما خديجة المرأة التى حار الرسول فى أفضالها، أعطته كل شيء، نفسها وجهدها ومالها وبيتها، وتركت له كل شيء، ولم تمتن عليه بشىء، فصارت رضى الله عنها وأرضاها قدوة مثلى لنساء العالمين. ومنذ أن زلزل العالم هذا (النبأ العظيم) وأضاءت شمس الإسلام أركان الدنيا، لا تزال خديجة بنت خويلد روحا تشرق من حجب الماضى، فتهتز لها المشاعر وتفيض العواطف ويدهش المرء أمام وجوه الحكمة والعظمة بشخصيتها، فى بيتها نزل نور الله وكتابه الكريم على قلب رسوله الذى اتخذ خديجة وقلبها درعا وملجأ فى وجه المحن، امرأة لا نظير لها، جعل الله فى ذاتها صفاء الروح ونور الإيمان والاستعداد لتقبل الحق. فى السنة الثامنة من الهجرة، دخل صلى الله عليه وسلم، مكة، وحينما جن الليل لم يبت فى منزل أحد أصحابه، ولم يصادر دارا من مالكها، ولكنه ضرب خيمته إلى جوار قبر زوجته الحبيبة خديجة، وكأنما فجّر الفتح الذى بشرته به فى فؤاده ينابيع ذكرياته معها، وقت أن كانا هما الاثنان فقط أمة الإسلام، وسط لجة الكفر؛ فامتزج ألم الفراق وفرح الفتح، ولسان حال النبى الكريم يلهج شاكرا: صدقت يا خديجة عندما قلت: «لن يخزيك الله أبدا». كثيرون يعرفون قصص الحب الشهيرة بين رجل وامرأة: عنتر وعبلة، قيس وليلى، روميو وجولييت، لكن كثيرين لا يلتفتون إلى أروع قصة حب فى التاريخ، بين محمد وخديجة، لقد كشفت مواقف الرسول عن أنه أرادنا أن ندرك أن الإسلام ليس دين أحكام وأخلاق وعقائد، فحسب، إنما دين حب وسلام ورحمة كذلك، يرتقى بمشاعر الإنسان تجاه كل المخلوقات والبشر، خاصة الزوجة الحبيبة، وهو ما يغفل عنه عديمو البصيرة والمتطرفون للأسف، فى زمننا هذا، انظر إلى ما يقترفه تنظيم «داعش» الإرهابى من امتهان لكرامة البشرية، ممثلة فى كرامة المرأة، بممارسات (جهاد النكاح) وما شابه، بعض المتشددين يرى المرأة أدنى منزلة من الرجل، بينما هى أسبق فى ميادين كثيرة، ينسى هؤلاء أن أول من سجد لله بعد الرسول هى امرأة السيدة خديجة، وأول من استشهد فى سبيل الله امرأة (السيدة سمية)، وكانت المرأة سببا فى إسلام حمزة بن عبدالمطلب وعمر بن الخطاب، كما يتناسون وصايا الرسول المتكررة بحسن معاملة النساء اللائى وصفهن ب «القوارير»، وهو القائل تكريما لهن: «من كان له ثلاث بنات فيكرمهن ويرحمهن ويعلمهن إلا كان من أهل الجنة»، فتساءل الصحابة: وإن كانت بنتان، فقال وإن كانت بنتان، قالوا يا رسول الله وإن كانت واحدة، قال: وواحدة. أما آخر كلماته عليه السلام، قبيل رحيله: «الله الله فى الصلاة، وأوصيكم بالنساء خيرا» وربط بين الاثنين، لأن الصلاة دليل قوة علاقتك مع الله، ورحمة المرأة دليل قوتك وتساميك فوق عوامل ضعفك. ولما حانت لحظة خروج روح النبى، كان على صدر امرأة، هى السيدة عائشة، وأول من لحق به بعد وفاته امرأة، هى ابنته السيدة فاطمة بعد ستة أشهر. لقد أوقد محمد الشعلة المباركة، وكتب الله ألا يخفت لها ضياء أبدا، بعد ذلك، فبلغ الرسالة، وكان لنساء ورجال حول الرسول واسع الفضل فى إيقاد الشعلة وتبديد حيرة العالم، وعلى رأس هؤلاء جميعا السيدة خديجة حبيبة الرسول وزوجته، إذ تزيح علاقتهما عن مكانة المرأة السامية فى الإسلام وقدرة الحب الراقى على صنع المعجزات، والخروج من ظلام المحنة إلى نور الظفر ومن حلكة اليأس إلى ضياء المستقبل وبشائره، فلماذا لا نقتدى برسولنا الكريم، ألم يقل الله تعالى: «لقد كان لكم فى رسول الله أسوة حسنة».